29 تشرين الثاني: سيادة وتقسيم
بقلم: شلومو افنري – هآرتس
قرار الجمعية العمومية للامم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947 بشأن اقامة دولتين، يهودية وعربية، في ارض اسرائيل هو الانجاز البارز للحركة الصهيونية. للمرة الاولى حظيت الصهيونية باعتراف هام بحق الشعب اليهودي بالسيادة والاستقلال في وطنه التاريخي. ولكن هذا القرار كان يرتبط بحبل سري في اساس التقسيم: الاعتراف بحق تقرير المصير لليهود اقترب بالحق الموازي للسكان العرب في البلاد لاقامة دولة في جزء من الارض الانتدابية. رغم أن أي حركة من الحركتين القوميتين لم تحظ بكل ما طلبت، إلا أنه خصص لهما مكان تحت الشمس. إن من يحتفل فقط بالاعتراف بحق اليهود في السيادة ويتجاهل مبدأ التقسيم – دولتان لشعبين – يكذب على نفسه ويشوه ذاكرة التاريخ.
حقيقة أن قرار التقسيم لم يحل النزاع بين الحركتين القوميتين تنبع من عدم استعداد العرب للموافقة على مبدأ التقسيم. موقف “كلها لي” دفعهم لشن حرب، ليس فقط ضد اسرائيل، بل ضد قرار الامم المتحدة وتسبب بالنكبة. عدم استعداد الفلسطينيين للاعتراف بالخطأ السياسي والاخلاقي الذي ارتكبوه برفض التقسيم يشكل الآن ايضا حجر عثرة في طريق التوصل الى مصالحة تاريخية بين الحركتين القوميتين. الاستعداد الصهيوني للموافقة على قرار التقسيم هو العامل الاساسي للتأييد الدولي لاقامة الدولة والاعتراف بها من معظم الدول الديمقراطية في العالم، وقبول اسرائيل في الامم المتحدة، وبموازاة ذلك الادانة الشديدة في الامم المتحدة للعداء العربي في 1947 و1948.
ولكن السياق التاريخي الذي جعل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تؤيدان اقامة الدولة اليهودية في بداية الحرب الباردة هو سياق معقد، وتوجد له تداعيات على مكانة اسرائيل الدولية الآن ايضا.
حسب الرأي السائد، بعد الكارثة كان في العالم شعور بالذنب تجاه اليهود، وهو الذي أدى الى تأييد اقامة الدولة اليهودية. هذا صحيح بالطبع، لكن يجب رؤية الامور بصورة متزنة: الآن ينسون أنه بعد سنتنين من الحرب فان الوعي بخصوصية الكارثة – ابادة مخطط لها لسكان مدنيين بهدف ابادة شعب – لم ينتشر حتى ذلك الوقت بصورة كافية في الرأي العام العالمي، وقتل ستة ملايين انسان، اعتبر احيانا أحد اضرار الحرب، وليس حدثا فريدا في كارثيته. في محاكمات نيرنبرغ لم تذكر الكارثة تقريبا، وفي جزء من الخطابات التي ألقيت في الجمعية العمومية للامم المتحدة خلال النقاش حول مستقبل ارض اسرائيل.
كانت هناك خطابات في الجمعية العمومية مؤثرة لعدد من ممثلي الدول الصغيرة في امريكا اللاتينية. خطابات خورخيه غارسيا غراندوس من غواتيمالا وارنيكا فبرغت من الاورغواي حظيت بالتقدير
من قبل الجاليات اليهودية في البلاد وفي الخارج. ولكن من الواضح أن دول عظمى مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لم تحدد سياستها في حينه – وحتى الآن لم تحددها – فقط بسبب الشعور بالذنب أو تبريرات اخلاقية.
الاعتبارات الامريكية برئاسة الرئيس هاري ترومان كانت مركبة، وليس هناك شك أن نشطاء يهود – ومنهم حاييم وايزمن – نجحوا في تجنيد التأييد في اوساط الادارة والحزب الديمقراطي. ولكن التأييد الامريكي لاهداف الصهيونية بدأ بالسماح لمئة ألف من الناجين من الكارثة بالهجرة الى ارض اسرائيل – في اعقاب توصيات لجنة التحقيق الانجلوامريكية بشأن ارض اسرائيل في العام 1946. هذا الطلب الامريكي كان تحديا للحكومة البريطانية التي بعد الحرب العالمية ايضا تمسكت بسياسة الكتاب الابيض وأغلقت ابواب ارض اسرائيل امام الهجرة اليهودية. هذا الموقف كان مرتبطا بالتوجه الامريكي التقليدي المناهض للامبريالية، الذين طمحوا الى تقليص نفوذ بريطانيا في العالم، ولهذا دعموا ايضا استقلال الهند.
إن طلب السماح بهجرة مئة ألف يهودي الى ارض اسرائيل لم يكن منفصلا عن سياسة الهجرة الى الولايات المتحدة، الذي تم سنه في العشرينيات بالهام من الايديولوجيات العنصرية الفاضحة، وخصصت حصص ضئيلة للهجرة من الولايات غير الانجلوسكسونية أو الشمالية. وقد تم تحديد الحصص حسب مسقط رأس طالب الهجرة، لهذا فان اغلبية اللاجئين من بولندا لم يكن لهم أي أمل في الوصول الى الولايات المتحدة. وقد تمت محاولات من جانب يهود وغيرهم لتغيير الحصص، لكنهم ووجهوا بمعارضة شديدة في الكونغرس. ويجب علينا التذكر أنه في ذلك الوقت كان جزء كبير من قاعدة دعم الحزب الديمقراطي توجد في الولايات الجنوبية المعروفة بعنصريتها – الامر الذي كان يجب على ترومان أخذه في الحسبان. في المقابل، استخدمت عليه ضغوط لتخفيف معاناة اللاجئين في المعسكرات في المانيا. معظم المعسكرات كانت في منطقة الاحتلال الامريكي، ووجودها سبب قدر لا بأس به من المشكلات في العلاقات بين السلطات الامريكية والسكان الالمان. لذلك طلبت الولايات المتحدة حل هذه المشكلات عن طريق توجيه اللاجئين الى ارض اسرائيل.
حظيت الولايات المتحدة وترومان، بحق، بالتقدير من جانب اليهود على تأييدهم هجرة مئة ألف يهودي الى ارض اسرائيل، التي تم رفضها من قبل حكومة حزب العمال البريطانية بقيادة كليمن اتيلي وآرنست بيفن، الامر الذي أدى في نهاية المطاف الى طرح موضوع استمرار الحكم البريطاني في ارض اسرائيل في هيئة الامم المتحدة، التي ورثت عصبة الامم المتحدة. حقيقة أنه ليس فقط التبريرات الانسانية هي التي وجهت السياسة الامريكية، بل ايضا اعتبارات سياسية داخلية، لا تقلل من الاهمية السياسية والاخلاقية المرافقة لها.
الدعم السوفييتي لاقامة دولة يهودية وتقسيم البلاد كان اكثر تعقيدا، وكل جوانبه ليست واضحة حتى الآن. منذ العشرينيات تبنى الاتحاد السوفييتي موقفا رافضا للصهيونية، وهو يرى فيها “حركة برجوازية” تناقض المباديء العالمية للايديولوجيا الشيوعية. النظام في الاتحاد السوفييتي رأى في الشعب اليهودي
الذي يعيش في الدولة أحد مؤيديه الاساسيين، ليس بسبب ميل اليهود الاصيل للشيوعية، بل بسبب أن نظام الحكم السوفييتي كان الكابح المهم الوحيد لرجعية القوى “البيضاء”، التي تعارض الثورة الشيوعية برؤيتها اللاسامية التقليدية. من الواضح أن الدور البارز الذي لعبه اليهود في القيادة السوفييتية في بداية طريقها (تروتسكي، كامينيف، زنوفييف، سباردلوف، رادك) الذين اعتبروا الشيوعية – وليس الصهيونية – الحل للاسامية، ساهم في العداء للمشروع الصهيوني.
نتيجة لذلك، وبسبب السياسة المناهضة للامبريالية السوفييتية العامة، دعم الاتحاد السوفييتي الحركة القومية العربية، الامر الذي أدى بها احيانا الى تأييد قواعد محافظة ودينية ورجعية بشكل واضح (مثل مفتي القدس)، بسبب معارضتهم للبريطانيين. احزاب شيوعية غربية، بما في ذلك اعضاؤها اليهود، كانوا شركاء في هذه المقاربة. الحرب العالمية الثانية أدت بالتدريج الى تغيير هذه المقاربة، الذي كانت ذروته في خطاب سفير الاتحاد السوفييتي في الامم المتحدة، اندريه غروميكو، في 14 أيار 1947، الذي أظهر فيه التأييد لاقامة دولة يهودية في ارض اسرائيل وحل ضائقة اليهود في اوروبا. بشكل عام كالعادة، أن يعزوا دعم الاتحاد السوفييتي لاقامة الدولة اليهودية الى أن الجهة الوحيدة التي حاربت في حينه الامبريالية البريطانية في المنطقة كانت الحاضرة اليهودية في البلاد، في حين أن كل الانظمة العربية المحافظة كانت تحت رعاية وحلفاء الامبريالية البريطانية (مصر، العراق، شرق الاردن). أو الفرنسية (سوريا ولبنان). اضافة الى ذلك يطرح ادعاء احيانا أن السوفييت اعتقدوا أن النفوذ الاشتراكي في الحاضرة اليهودية سيؤدي بالدولة اليهودية الى التقارب السياسي من الاتحاد السوفييتي في ظل الحرب الباردة الآخذة في التبلور.
ولكن من الوثائق السوفييتية والصهيونية التي نشرت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تظهر صورة معقدة وأكثر أهمية. في شباط 1941 حاول وايزمن، الذي كان مقره في لندن، اجراء اتصالات مع الحكومة السوفييتية بواسطة السفير السوفييتي في بريطانيا، ايفان مايتسكي. ولكن رغم أنهما أجريا محادثة لطيفة ومهذبة، التي كانت الاتصال السياسي الاول بين زعيم صهيوني وسفير سوفييتي، إلا أنه لم تكن أي نتائج لتلك المحادثات. في التقرير الذي ارسله مايتسكي لموسكو (وهو يهودي مثل الكثيرين من السفراء السوفييت في حينه) امتدح حقيقة أن وايزمن يتحدث الروسية بطلاقة، رغم أنه غادر روسيا منذ عشرات السنين. كما أشار مايتسكي الى أن وايزمن قال في نهاية الامر بأن هتلر سيهزم – وهي مقولة تطلبت الكثير من شجاعة وايزمن ازاء حقيقة أنه في اعقاب اتفاق ريبندروف – موليتوف، فان ستالين كان ما يزال حليفا لهتلر وشريكا في مهاجمة بولندا وتقسيمها بين المانيا النازية والاتحاد السوفييتي الشيوعي.
الغزو الالماني للاتحاد السوفييتي في حزيران 1941 سنح للحركة الصهيونية فرصة تنفيذ عملية من عملياتها الدبلوماسية البارزة في تاريخها. للمرة الاولى سنحت فرصة لاجراء اتصالات مع الاتحاد السوفييتي، حيث أن الاتحاد السوفييتي والحركة الصهيونية اصبحا الآن في معسكر واحد في الحرب ضد النازية. في عواصم مختلفة اجرى زعماء صهاينة اتصالات مع سفراء سوفييت، وبهذه الطريقة سمعت القيادة السوفييتية للمرة الاولى عن الصهيونية من زعماء صهاينة. هذا الامر خلق ثورة هامة في الوعي، لأنه حتى
ذلك الحين المعلومات التي كانت لدى موسكو عن الصهيونية جاءت من مصادر عربية أو من يهود شيوعيين في الاتحاد السوفييتي والغرب، الذين كانوا بطبيعتهم مناهضين للصهيونية.
في الاعوام 1941 – 1945 التقى دافيد بن غوريون وناحوم غولدمان وعمانوئيل نيومن والياهو افيشتاين (ايلات) مع سفراء سوفييت في لندن وواشنطن وأنقرة ومكسيكو سيتي. وقد نقلوا لهم معطيات حول الحاضرة اليهودية في البلاد وعن تجندها للمشاركة في جهود الحرب وعن ارسال المعدات من البلاد الى الاتحاد السوفييتي وعن البنية الاقتصادية في البلاد. عندما علم وايزمن في ايار 1943، وهو خبير في اجراء العلاقات الدولية، أن ادوارد بينيش، رئيس حكومة المنفى لتشيكوسلوفاكيا في لندن، سيسافر الى موسكو من اجل مقابلة ستالين، نجح وايزمن في ارسال رسالة معه الى الرئيس السوفييتي، والتي فصل فيها قدرة الاستيعاب في ارض اسرائيل والجالية اليهودية والطابع التقدمي، حتى أنه ذهب أبعد من ذلك وعقد مقارنة اشتراكية بينها وبين الاتحاد السوفييتي.
إن قراءة الوثائق السوفييتية والصهيونية حول هذه اللقاءات ممتعة. المتحدثون الصهاينة لم يحاولوا اقناع من تحدثوا معهم بأن الصهيونية محقة – لكنهم حاولوا اقناعهم بأنهم هم وليس العرب، الحلفاء الطبيعيين للاتحاد السوفييتي في المنطقة. وقد ذهب افيشتاين بعيدا في لقاءاته في ربيع 1943 مع السفير السوفييتي في تركيا، سيرجيه فينوغرادوف: افيشتاين قال له إنه اصبح واضحا الآن بدون شك أن السياسة السوفييتية في دعمها للحركة القومية العربية كانت خاطئة، لأن هذه الحركة – مثلا في ارض اسرائيل وفي العراق – تبين أنها تؤيد النازيين، وأن الحاضرة اليهودية هي الجهة التقدمية الوحيدة في المنطقة. في رسالته برر فينوغرادوف بلغة ضعيفة: “هذه السياسة كانت انحراف تروتسكي”.
يتبين من هذه اللقاءات أن السوفييت اظهروا الاهتمام الكبير بالقدرة الاستيعابية للبلاد، وبناء على طلبهم ارسل الى موسكو من لندن ومن القدس عدد من التقارير الاحصائية والاقتصادية. من الواضح أن اهتمام السوفييت بموضوع قدرة الاستيعاب للبلاد اشار الى تغيير في توجه السوفييت، وجاء كرد على ادعاءات العرب التقليدية بأن البلاد لا يمكنها استيعاب هجرة جماعية. في 1943 وصل الى البلاد بشكل مفاجيء السفير السوفييتي في لندن مايتسكي في طريقه من بريطانيا الى موسكو. وقد التقى مع بن غوريون واليعيزر كابلان، الذي كان رئيس القسم الاقتصادي في الوكالة اليهودية. وقد أخذا مايتسكي في جولة في كيبوتس في جبال القدس، وأجابا بالتفصيل على اسئلته بشأن القدرة الاستيعابية للبلاد. وبناء على طلبه كتبا مذكرة مفصلة حول الموضوع.
لا توجد لدينا معلومات حول النقاشات الداخلية في المكتب السياسي السوفييتي بشأن هذه المواضيع: الوثائق التي نشرت هي فقط رسائل دبلوماسية، وليس تقارير عن نقاشات داخلية. ولكن الاسئلة المتكررة عن القدرة الاستيعابية تبرهن على اتجاهات التفكير السوفييتي، التي هدفت الى الحصول على اجابات براغماتية عن اسئلة تتعلق بالهجرة اليهودية الى البلاد.
نظرة ممتعة لعمليات التفكير هذه يمكن ملاحظتها في تقارير ناحوم غولدمان حول لقاءاته في الاعوام 1942 – 1944 مع قسطنطين امنسكي (من اصل يهودي)، سفير الاتحاد السوفييتي في واشنطن في حينه وبعد ذلك في المكسيك. غولدمان بسحره ودبلوماسيته وموهبته في التحدث نجح في جعل امنسكي، في لقاء في آب 1944، يرمز اليه (بصورة شخصية كيهودي) بأنه بعد الحرب ستكون مشكلة كبيرة في شرق اوروبا مع اليهود الناجين من الكارثة، وأن هذا الامر يقلق السوفييت: هذه كانت اشارة واضحة على أن اللاسامية في شرق اوروبا، لا سيما في بولندا، ستصعب على اعادة اسكان الناجين في بلادهم التي جاءوا منها. واضاف امنسكي بأنه في موسكو تجري نقاشات عميقة بشأن اليهود، وأنه سيتم اتخاذ قرارات مهمة في هذا الشأن – اشارة اولى الى تغيير محتمل في السياسة السوفييتية، التي ستجد تعبيرها الحاسم في خطاب غروميكو في 1947. من الجدير أن نذكر أنه في خريف 1943 خلف غروميكو امنسكي كسفير للاتحاد السوفييتي في واشنطن. وكان غولدمان من الاوائل الذين طلبوا الالتقاء معه. مع اشارته الى أنه ليس لديه شيء محدد لبحثه معه، لكنه “يرغب في الحفاظ على العلاقة”. في التقرير الذي ارسله الى الادارة الصهيونية أشار غولدمان الى أن غروميكو صحيح أنه شاب، لكنه مؤهل ومستعد للاستماع.
إن فتح نافذة على القيادة السوفييتية اثناء الحرب كان احد الانجازات الهامة جدا للدبلوماسية الصهيونية. وهذا الامر تم بتعقل ومن خلال تشخيص المصالح المشتركة وبتواضع: أي زعيم صهيوني لم يتفاخر أو يتبجح بالعلاقة الممتازة مع موسكو، لكن تم ارسال تقارير مفصلة للادارة الصهيونية، حتى أن خطاب غروميكو في 1947 فاجأ القيادة الصهيونية. البذور التي زرعت نبتت بعد حين.
هكذا نشأت الارضية للاتفاق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي التي أدت الى تأييد الدولتين العظميين لقرار التقسيم. ومثلما هي الحال في قضية تصريح بلفور تشابكت هنا مصالح مركبة لسياسة داخلية وسياسة خارجية، الى جانب قدرة كبيرة للقيادة الصهيونية على تطوير دبلوماسية عقلانية ايضا في غياب دولة. لقد كان للحركة الصهيونية قادة فهموا أن من المهم استغلال اللحظة السياسية المناسبة في الازمات ايضا. وأن تشخيص المصالح حتى لو كانت غير متشابهة يمكن أن تكون متطابقة، وعرفوا أن العدل الشخصي ليس من الضروري أن يكون مقنعا، وأنه يجب عدم التفاخر والتبجح علنا، بل العمل الصعب اليومي لنسج العلاقات والاستثمار على المدى البعيد، لأنه احيانا يكون الخير في الامر المخفي عن العين. ليست كل حركة سياسية، ولا كل دولة، حظيت بزعماء مثل هؤلاء الذين حظيت بهم الحركة الصهيونية في الاوقات الصعبة لشعب اسرائيل. لا يمكن تجاهل الحقيقة الصعبة وهي أنه لو كانت للحركة الفلسطينية في ذلك الحين قيادة لها نفس القدرات، ولم تخطيء في تقدير عدالتها الذاتية واستخدام العنف، لكانت قامت الدولة الفلسطينية في 1948 الى جانب اسرائيل: كان الشعبان لن يجرا الى الحرب، ولم تكن النكبة لتحدث، ومشكلة اللاجئين لم تكن لتنشأ، ووجه الشرق الاوسط كان سيكون مختلفا.
في نظرة الى الوراء، من الواضح أنه لو لم تتبن القيادة الصهيونية مبدأ التقسيم، فان الامم المتحدة لم تكن لتدعم انشاء الدولة اليهودية. هذه هي الامور التي يجب علينا تذكرها الآن: من يرفض تقسيم البلاد
وحل الدولتين يقوم بتشويه شرعية دولة اسرائيل والمشروع الصهيوني. هذا وهم خطير، الافتراض أنه في نهاية الامر ستحظى اسرائيل بالشرعية لمواصلة السيطرة على كل ارض اسرائيل. إن من يحتفل في 29 تشرين الثاني لا يمكنه تجاهل أن السيادة والتقسيم تقترن الواحدة بالاخرى.
يجب أن لا يكون شك بأن المجتمع الدولي اعترف بحق الشعب اليهودي في تقرير المصير والسيادة والاستقلال لأن الحركة الصهيونية وافقت على مبدأ المصالحة بين الحركتين القوميتين، الذي يكمن في فكرة تقسيم البلاد الى دولتين قوميتين، يهودية وعربية. إن من يتوق الآن الى استمرار سيطرة اسرائيل على ملايين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، يضعضع اساس شرعية الصهيونية ودولة اسرائيل. ومثلما لم يكن بالامكان في 1947 الحصول على موافقة دولية على دولة يهودية في كل ارض اسرائيل، هكذا هو الامر الآن، لا يمكن الحصول على موافقة كهذه، ومن لا يرى ذلك فهو يتنكر للواقع ويقوم بتضليل الجمهور.
سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط
الحاجة إلى استراتيجية عليا
بقلم: موشيه بوغي يعلون
معهد أبحاث الأمن القومي
تميزت السنة الاولى لولاية ادارة ترامب بسلوك أمريكي عديم خط التوجيه المستقر بالنسبة للشرق الاوسط. والامال الكبرى التي علقتها الكثير من دول المنطقة على تغير الادارة ودخول رئيس فاعل الى البيت الابيض تتبدل ببطء الى احساس بالتشويش والحرج، في ضوء غياب الثبات من جانب الولايات المتحدة والسلوك بلا اهداف استراتيجية واضحة. ومع نهاية السنة الاولى على بداية ولاية ترامب، تبرز الحاجة الى بلورة استراتيجية امريكية عليا بالنسبة للشرق الاوسط.
الرئيس اوباما، باستثناء سعيه الى الاتفاق مع ايران، قلص تدخله في الشرق الاوسط، ولكنه اضطر الى العودة للتدخل في المنطقة بسبب التحدي الذي مثلته الدولة الاسلامية. كما أن الرئيس ترامب تحدث هو الاخر في حملة الانتخابات في صالح تقليص تدخل الولايات المتحدة في ساحات مختلفة في العالم، ولكنه كان مطالبا بان يتصدى لاتساع الهيمنة الايرانية، لمواصلة القتال ضد الدولة الاسلامية وكذا محاولة استقرار سوريا، العراق، لبنان، اليمن وليبيا.
يتضح من ذلك ان ليس للادارة الامريكية مفر، غير ان تواصل أداء مهامة “الشرطي العالمي” في صالح مصالح الولايات المتحدة. وذلك لانه لا يوجد فراغ وفي اماكن عديدة في العالم بشكل عام، وفي الشرق الاوسط بشكل خاص، تملأ الفراغ جهات تعمل ضد المصالح الامريكية. والدليل هو أنه في فترة الادارة الامريكية السابقة، استغلت الفراغ ايران، الدولة الاسلامية، تركيا وروسيا.
من أجل بلورة استراتيجية امريكية عليا في المنطقة يجب أولا الاتفاق على تحليل الوضع. فالميزة الاساس للشرق الاوسط في الحاضر هي الصراع على الهيمنة الذي يديره ثلاثة معسكرات اسلامية متطرفة:
$1· المعسكر الايراني – الشيعي، الذي يسعى دوما الى توسيع نفوذه، لتثبيت أنظمة اسلامية في المنطقة وشق العالم العربي السني.
$1· المعسكر السلفي – الجهادي السني، بريادة الدولة الاسلامية والقاعدة، والذي يسعى الى اقامة الخلافة.
$1· معسكر الاخوان المسلمين برعاية الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، والذي يسعى الى امبراطورية عثمانية عديدة على اساس ايديولوجيا الاخوان المسلمين.
تعرض هذه الدراسة عددا من خطوط التوجيه، يجدر أن توجه الولايات المتحدة عند بلورة استراتيجيتها حيال المنطقة ولاعبيها المختلفين.
حيال النظام الايراني
يعمل النظام الايراني بنشاط على توسيع نفوذه في المنطقة. وقد حظي بانجازات عديدة بسبب ضعف الادارة الامريكية السابقة، مثلما وجد تعبيره ايضا في الاتفاق النووي. هكذا، فان النظام الايراني بعد الاتفاق النووي، بينما هو محرر من العزلة الدولية والعقوبات الاقتصادية وبلا تحديات عسكرية أو داخلية، نجح في توسيع نفوذه الى العراق واليمن، يسيطر في لبنان، يتطلع الى السيطرة في سوريا، يتآمر على الانظمة السُنية في المنطقة مثلما في البحرين وفي السعودية، ويدعم حماس وتنظيم الجهاد الاسلامي في حربهما ضد اسرائيل.
ان الخطاب الذي القاه الرئيس ترامب في ايلول الماضي في موضوع الاتفاق النووي بين القوى العظمى الستة وايران هام للغاية. واشارت اقواله الى تغيير في السياسة واستيعاب خطورة التهديد الذي يمثله النظام الايراني على استقرار الشرق الاوسط والعالم. فالادارة الامريكية، مثل الانظمة العربية السُنية واسرائيل، تصنف النظام الايراني كالتهديد رقم 1 في الشرق الاوسط وليس كجهة تساهم في استقرار المنطقة. وعليه، فانها جزء من الحل، مثلما رأته إدارة اوباما. ومع ذلك فمن أجل التصدي للتحدي الايراني وتحقيق الهدف الذي حدده الرئيس ترامب في خطابه، على الادارة ان تمتنع عن الانشغال بفتح الاتفاق النووي الان، وبدلا من ذلك ان تتخذ سياسة تندرج فيها الضغوط على النظام، بحيث تنشأ لديه مرة اخرى معضلة بين استمرار نشاطه العاق والتآمري، وبين بقائه. اما فتح الاتفاق فسيخلق انشقاقا بين الولايات المتحدة والدول الخمسة المشاركة في الاتفاق النووي، بدلا من رص الصفوف وممارسة الضغط على النظام الايراني.
ان فتح الاتفاق زائد اساسا لانه يمكن ممارسة الضغط على النظام الايراني منذ اليوم دون فتح الاتفاق النووي، بسبب خروقاته لقرار مجلس الامن في موضوع نشر السلاح، الارهاب، مشروع الصواريخ وكذا خرق حقوق الانسان، بما في ذلك الاعتقال والاعدام لمعارضي النظام. وبالتوازي على الادارة الامريكية ان تقود نحو رقابة اكثر تشددا على المشروع النووي الايراني، والاستثمار في الاستخبارات والتعاون مع الحلفاء، للايفاء بالهدف الذي حدده الرئيس ترامب – منع القدرة النووية العسكرية عن ايران.
حيال المعسكر السلفي الجهادي
يسعى الجهاديون السُنة الى اقامة الخلافة – وسواء عاجلا، بطريقة الدولة الاسلامية التي اعلنت عن اقامة الخلافة واقامت المنظومة المدنية لادارة المناطق التي احتلتها بالتوازي مع الكفاح العسكري للحفاظ على هذه المناطق وتوسيعها، أم آجلا بطريقة منظمة القاعدة التي تسعى أولا لالغاء تدخل الغرب في الشرق الاوسط واسقاط أنظمة المنطقة “الكافرة” كي تقيم الخلافة بعد خرابها. هذه الجهات يجب أن تتكبد الهزيمة.
ركزت ادارة اوباما على القتال ضد الدولة الفلسطينية، وعادت لتركز على الشرق الاوسط برئاسة تحالف ركز على مهاجمة التنظيم، ولا سيما ذخائره الاقليمية. وتواصل ادارة ترامب الهجوم، وبالفعل، فان الدولة الاسلامية، التي فقدت معظم الاراضي الاقليمية التي سيطرت عليها في العراق وفي سوريا، قريبة من الهزيمة. ورغم الهزيمة المرتقبة لهم على الارض، فان الدولة الاسلامية، القاعدة وايديولوجيتهما، سيواصلون تحدي الدول التي تقاتلهم. وذلك، سواء من خلال القتال من داخل المعاقل الاقليمية التي لا تزال لهم في شبه جزيرة سيناء، في ليبيا وفي اليمن أم عبر عمليات الارهاب التي مصدرها في المناطق هذه وفي شبكات الارهاب السرية التي تبقت لهم اساس في العراق، في سوريا وفي شمال افريقيا. هذا الارهاب سيركز ليس فقط على الدول العربية بل وعلى الغرب.
بفضل حجمها العالمي، فان الحرب ضد عناصر الجهاد السلفي تستدعي حشدا للجهود الدولية بقيادة الولايات المتحدة، في ظل التعاون الاستخباري، العملياتي، الاقتصادي والسياسي، بين كل العناصر ذات الصلة في العالم بشكل عام وفي الشرق الاوسط بشكل خاص، لالحاق الهزيمة بهم في المناطق التي تحت سيطرتهم ومن أجل احباط الارهاب الذي يعتزمون تفعيله في كل مكان في العالم.
حيال معسكر الاخوان المسلمين
وكما اسلفنا فان الرئيس التركي اردوغان يؤيد الاخوان المسلمين في الشرق الاوسط ويتطلع لاعادة تموضع تركيا كامبراطورية عثمانية جديدة على اساس ايديولوجيتهم. وفي عهد ادارة اوباما لم يمارس اي ضغط امريكي أو دولي ذي مغزى على اردوغان رغم أنه عمل بخلاف المصالح الامريكية والاوروبية وذلك من خلال تقديم المساعدة الاقتصادية للدولة الاسلامية من خلال شراء النفط من التنظيم، اعطاء امكانية (وبالتأكيد عدم منع) عبور الجهاديين من كل العالم عبر تركيا، سواء في طريقهم الى الانضمام الى الدولة الاسلامية في سوريا وفي العراق، أم في طريق عودتهم الى دولهم ولا سيما الى اوروبا، كمخربين مدربين ومجربين. وكانت النتيجة عمليات قاسية، نفذت في اوروبا في السنوات الاخيرة من هؤلاء النشطاء؛ اعطاء امكانية بل وتشجيع الهجرة غير القانونية للمسلمين الى اوروبا (لاجئون ومهاجرو عمل) عبر تركيا، وبالاساس عبر الجزر اليونانية في بحر ايجا من خلال جهاز التهريب التركي. ولا يخفي اردوغان نيته لاسلمة اوروبا من خلال تغيير ديمغرافي فيها؛ ضرب الاكراد برعاية هجوماتها على الدولة الاسلامية في سوريا، رغم أن الاكراد كانوا العنصر المقاتل الهام في التنظيم.
تركيا لم تدفع اي ثمن على سلوكها هذا. وبالتالي فان على الولايات المتحدة الى جانب الدول الاوروبية أن تمارس روافع الضغط المتوفرة ضد تركيا كعضو في الناتو وكدولة متعلقة اقتصاديا بالتجارة معها كي تتصرف بناء على ذلك. جدير الاشارة الى أن الضرر النابع من عدم استخدام هذه الروافع لا يتلخص فقط بمواصلة التآمر التركي بل ايضا يمس مباشرة بمكانة الناتو وقوة ردعه وردع الولايات المتحدة حيال الاكراد.
لو كانت الولايات المتحدة تتصرف كـ “شرطي عالمي” لمنعت مسعود برزاني من السير بعيدا في موضوع الاستقلال الكردي، ناهيك عن انه كانت محاولة من جانب الادارة الامريكية لحمله على عدم اجراء الاستفتاء، تكبدت الولايات المتحدة فشلا في منع الازمة. واليوم، واضح ان ليس الاكراد فقط بقيادة مسعود البرزاني دفعوا ثمنا على سياسته، بل وكنتيجة لهذه المهزلة تضررت مكانة الولايات المتحدة أيضا وتعزز المعسكر الايراني الشيعي.
حيال روسيا
واضح أن أحد اهداف الرئيس فلاديمير بوتين في تدخله ونشاطه في الشرق الاوسط بشكل عام، وفي سوريا بشكل خاص وتعزيز مكانة روسيا كقوة عظمى عالمية. رغم ذلك، يمكن الوصول الى تفاهمات بين ترامب وبوتين بشأن تقسيم مناطق النفوذ. في سوريا مثلا، المصالح الروسية تتركز في علويستان الاصلية وليس في الاجزاء الاخرى التي سيطر عليها بشار الاسد، أو في القسم الكردي او ذاك الذي في شرق سوريا – المناطق المتماثلة أكثر مع المصالح الامريكية. وتقسيم مناطق النفوذ هذا يمكنه ان يكون أساس لتوافقات وتفاهمات انطلاقا من فرضية عمل واقعية بانه لا يمكن توحيد سوريا من جديد. وبدلا من ذلك، ينبغي الاعتياد على فكرة الانطواء في جيوب تكون منسجمة نسبيا من ناحية ديمغرافية، مثل علويستان السورية، كردستان السورية وسنستان السورية. على الولايات المتحدة أن تمتنع عن هجر الساحة السورية بشكل يجعلها منطقة نفوذ روسية /ايرانية صرفة.
حيال المعسكر السُني البراغماتي
لقد جعلت ادارة اوباما المعسكر العربي السني يشعر بانه متروك لمصيره بل ومخون. فدحر الرئيس حسني مبارك، عدم دعم الرئيس عبد الفتاح السيسي في مواجهة الاخوان المسلمين في مصر في بداية الانقلاب المضاد، وكذا السير مع المعسكر الشيعي بقيادة ايران انطلاقا من رؤيتها كجزء من الحل في الحرب ضد الدولة الاسلامية، كل هذه أدت الى أزمة ثقة بين الولايات المتحدة ومن كانوا حتى ذلك الحين حلفاءها الطبيعيين في المنطقة. يعبر الرئيس ترامب عن سياسة مختلفة، وجدت تعبيرها في زيارته الهامة الى الرياض في ايار 2017 وبالمحاولة لدعم (سياسي، اقتصادي وعسكري) للعناصر السنية غير الجهادية في سوريا مثل “القوات السورية الديمقراطية”. ليس واضحا اذا كانت سياسة الدعم للسُنة غير الجهاديين مستمرة. وبالفعل منذ بداية المعركة في الرقة توجد مؤشرات على تعاظم المساعدة الامريكية، ولكن مع خبو المعارك الكبرى، وربما في اعقاب تفاهمات ترامب – بوتين في الموضوع السوري، توجد مؤشرات على أن الدعم والمساعدة يتقلصان. هذا خطأ جسيم. اذا كان الامر صحيحا فان الولايات المتحدة تتخذ مرة اخرى في نظر السنة في الشرق الاوسط كسند متهالك، مقابل بوتين الذي ينجح في أن يبدو كمن هو ملخص لحلفائه.
على الولايات المتحدة أن تتخذ موقفا واضحا مع السنة وضد المعسكر الشيعي بقيادة ايران. والتجربة الايجابية في دعم الاكراد في حربهم ضد الدولة الاسلامية يجب ان تشكل مثالا لدعم مشابه للسُنة غير الجهاديين. في هذا السياق، كان بوسع الولايات المتحدة أن تستعين بالدول العربية السُنية، التي تعمل انطلاقا من مصلحتها لمنع انتشار النفوذ الشيعي، السلفي الجهاد او نفوذ الاخوان المسلمين.
وخلاصة القول فان الشرق الاوسط كمنطقة توجد فيها مصالح امريكية صرفة من جهة وكمنطقة مركبة وقابلة للتفجر جدا من جهة اخرى، يستدعي للولايات المتحدة تحديات عظيمة يتداخل الواحد بالاخر. وبناء على ذلك، فان الولايات المتحدة لا يمكنها أن تسمح لنفسها بفك ارتباطها عن المنطقة. على ادارة ترامب ان تصيغ بشكل واضح اهدافها في المنطقة وان تتخذ في ضوئها استراتيجية تسمح بان تتصدى بالشكل الافضل للعناصر المتطرفة والهازة للاستقرار فيه، في ظل تعزيز حلفائها في المنطقة كي يشكلوا مضاعف قوة ضد هذه العناصر.
بعد ثماني سنوات من سياسة خارجية وأمن اضعفت مكانة الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية، فان عدم اصرار ادارة ترامب على مصالحها ومصالح حلفائها في الشرق الاوسط سيؤثر بشكل سلبي على مكانة الولايات المتحدة في العالم بشكل عام وحيال كوريا الشمالية وايران بشكل خاص. فالفجوة بين الاقوال والافعال – مما يعكس عدم رغبة، عدم تصميم وعدم جدية – من شأنها ان تضعف أكثر فأكثر مكانتها. ان التجربة التاريخية للادارات السابقة في الانطواء في الداخل وعدم تشكيل “شرطي عالمي”، او تأجيل المواجهة مع التحديات الامنية الى الادارات التالية، تثبت أنه مع مرور الوقت يصبح هذا التصدي للتحدي اصعب أكثر فأكثر.
وعليه، فان على الادارة أن تبلور استراتيجية عليا، تقدم جوابا للمصالح الامريكية وحليفاتها، ويفضل ساعة مبكرة أكثر.