هواجس الرعب الديموغرافي الصهيوني
عارف الآغا – طريق القدس
يتسم الصراع الفلسطيني– الإسرائيلي بخصوصيته وتفرده، فهو صراع على الوجود اتخذ أشكالًا وصورًا عدة. وقد اعتبر الكيان الصهيوني منذ قيامه أن الفلسطينيين يشكلون خطرًا ديموغرافيًّا عليه. ولذلك استمرت محاولاته في الحفاظ على التفوق الديموغرافي على الجانب الفلسطيني. وبعد مرور قرابة السبعة عقود على نكبة الفلسطينيين الكبرى ثمة صراع ديموغرافي صارخ يحصل بين الفلسطينيين والإسرائيليين على أرض فلسطين، وهو لصالح العرب – فيما يبدو- على المدى الاستراتيجي، خاصة إذا ما علمنا أن أكثر من نصف مجموع اليهود في العالم موجودون حاليًا في دول أكثر جذبًا من الاقتصاد الإسرائيلي.
وفي سياق هذا الصراع الوجودي على الأرض والسكان شكل العامل الديمغرافي أهمية بالغة . ولطالما ارق هذا العامل قادة الكيان وحكوماتهم منذ نشأة الكيان إلى يومنا هذا .لذلك كانت الديموغرافيا دائما في صميم السياسة الإسرائيلية أدواتها التهويد والتطهير العرقي والاستيطان ومختلف ضروب القمع والإجرام ومصادرة الأرض وهدم المنازل والقتل والاعتقال والطرد والحصار والتهجير .. إلى آخر ما تنقله الأخبار يوميا من أساليب التنكيل والقهر التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا . . فخلال حرب 1948 التي أسس على إثرها الكيان الصهيوني على أنقاض الوطن الفلسطيني، طرد 750،000 فلسطيني في حملة أطلق عليها اليوم التطهير العرقي. وبحلول النهاية، تم تخفيض أغلبية فلسطينية كبيرة إلى أقل من خمس سكان الكيان.ففي تشرين الثاني / نوفمبر 1947، بعد أيام قليلة من تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة على تقسيم فلسطين وإقامة الكيان الذي يبلغ عدد سكانه 520 ألف يهودي و 320 ألف عربي، قال الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون “لا يمكن أن يكون هناك استقرار وقوة للدولة اليهودية ما دام لديها أغلبية يهودية بنسبة 60 في المائة فقط . لذلك من الأفضل طرد العرب من السماح لهم بالبقاء وبالتالي ضمان دولة يهودية متجانسة،” . وتوقع أن يستوعب المزيد من اليهود من أوروبا والعالم العربي.. ورغم ذلك، قبل بن غوريون وغيره من القادة الصهيونيين تقسيم الأمم المتحدة كمرحلة أولية فقط. وحلموا بأن إسرائيل ستشكل في نهاية المطاف كل فلسطين التاريخية من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. غير أن المشروع كان قائما على حسابين خاطئين :
ألأول ، لم يدرك بن غوريون معدل المواليد الأعلى للأقلية الفلسطينية. وعلى الرغم من موجات المهاجرين اليهود، فقد حافظ الفلسطينيون بسرعة على 20 في المائة من السكان الإسرائيليين. لقد خاضت إسرائيل معركة ضدهم منذ ذلك الحين. في الواقع كان التطهير العرقي ممارسة مستمرة للدولة الإسرائيلية. فقد طردت،200,000 فلسطيني من الضفة الغربية خلال حرب حزيران لعام 1967، وهي تواصل سياسة التطهير العرقي لأجزاء من الضفة الغربية والقدس لإفساح الطريق أمام المستوطنات اليهوديةا لتي انتشرت كالفطر في الضفة الغربية . وفي عام 2005، اشترت إسرائيل مساحة أكبر للتنفس عن طريق “فك الارتباط” عن جيب غزة الصغير وسكانها البالغ عددهم 1.5 مليون نسمة. واظهر المخطط الديموغرافي الإسرائيلي مرة أخرى في الأسبوع الماضي كما ورد في تحقيق أجرته صحيفة “هآرتس” ” أن إسرائيل قد جردت في السنوات الأخيرة من المواطنية آلاف البدو” ، وهم أسرع سكان البلاد نموا. وتدعي إسرائيل أن هناك “أخطاء” بيروقراطية حدثت في تسجيل آبائهم أو أجدادهم بعد تأسيس الكيان .وكان نتانياهو قد اعترف خلال الاحتفالات بالذكرى الخمسين للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية بأنه لن يكون هناك تفكيك للمستوطنات أو طرد سكانها البالغ عددهم 600،000 نسمة – وهو الحد الأدنى المطلوب لدولة فلسطينية بالكاد مجدية. وقال نتانياهو “نحن هنا للبقاء إلى الأبد. واضاف “سنعمق جذورنا ونبنيها ونعززها “.وحتى يومنا هذا، ترفض “إسرائيل” باستمرار حق العودة إلى أي من اللاجئين أو أحفادهم، الذين يبلغون عشرة ملايين، وهم أقدم وأطول اللاجئين معاناة في العالم. وبأي تعريف، فإن هذا تطهير عرقي.
وفى الوقت نفسه، اتخذت خطوات أخرى هذا الشهر عندما وافقت محكمة إسرائيلية على إلغاء جنسية فلسطيني أدين بتهمة قتل الجنود الإسرائيليين . وهذه وسيلة جديدة لتكييف المواطنة على “الولاء”. وأكدت وزيرة العدل ايليت شاكيد محذرة القضاة من انه يتوجب عليهم أن يعطوا الأولوية للديمغرافيا اليهودية على حقوق الإنسان. رغم كل هذا يخوض الكيان معركة يائسة ضد الفلسطينيين على هذا الصعيد وذلك –من خلال استعداد “إسرائيل” لإنشاء فئات جديدة من “اليهود” حتى يمكن تجنيدهم في المعركة ضد الفلسطينيين
أما سوء التقدير الثاني فهو إخفاق الكيان في طرد معظم السكان من المناطق التي استولى عليها من الأجزاء الأخيرة من فلسطين التاريخية ، فقد جعلت نفسها مسؤولة عن مئات الآلاف من الفلسطينيين الإضافيين، بمن فيهم اللاجئون من الحرب السابقة . والآن، ولدى قتل الآمال في إقامة دويلة فلسطينية، وموت هذا المشروع أعلن نتنياهو عزمه على تحقيق حل الدولة المستوطنة الواحدة. ويسعى نفتالي بينيت، المنافس الرئيس لنتانياهو في الحكومة لتأمين الأجواء الدولية المؤاتية للبدء في ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية.
ولكن هناك مشكلة ديموغرافية ستضطرهم لخوض معركة يائسة أخرى . فما لا يقل عن نصف سكان إسرائيل الكبرى هم فلسطينيون. ومع معدلات المواليد الحالية، سيكون اليهود قريبا أقلية لا جدال فيها – وبالتالي حكم الأقلية على الأغلبية الفلسطينية. هذا هو السياق لفهم تقرير لجنة حكومية – تسربت في نهاية الأسبوع الماضي – الذي يقترح إعادة تصور ثوري حول تحديد من يعتبر يهوديا، وبالتالي مؤهلا للعيش في إسرائيل (والأراضي المحتلة).
إن قانون العودة في إسرائيل لعام 1950 يلقي الشباك على نطاق واسع، وينقح الأمر الحاخامية التقليدية بأن اليهودي يجب أن يولد لأم يهودية. وبدلا من ذلك، فإن القانون يخول أي شخص له جد يهودي واحد للحصول على الجنسية الفورية. وقد عمل ذلك على ما يرام طالما كان اليهود يفرون من الاضطهاد أو الضائقة الاقتصادية. ولكن منذ وصول مليون مهاجر بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في أوائل التسعينات، جفت مجموعة اليهود الجدد.
بالمقابل أثبتت الولايات المتحدة، وحتى في عهد ترامب، أنها المغناطيس الأكبر الجاذب .للهجرة المعاكسة .وكانت صحيفة “جيروزاليم بوست” ذكرت الشهر الماضي أن نحو مليون إسرائيلي قد يعيشون هناك. والأسوأ من ذلك بالنسبة لنتنياهو، يبدو أن بعضهم على الأقل مدرج على لائحة الشخصيات الإسرائيلية التي تدعم السياسة الديموغرافية ضد الفلسطينيين. وتظهر الاتجاهات الأخيرة أن نزوح الإسرائيليين إلى الولايات المتحدة هو ضعف حجم وصول اليهود الأميركيين إلى إسرائيل. وان هناك 150 شركة إسرائيلية ناشئة في وادي السيلكون وحدها، هذا الاتجاه ليس على وشك الانتهاء. وبسبب هذا النقص الملحوظ لليهود في هزيمة الفلسطينيين من الناحية الديموغرافية، فإن حكومة نتنياهو تدرس حلا يائسا. ويشير التقرير المسرب إلى فتح الأبواب أمام فئة جديدة من اليهود غير اليهود. ووفقا لصحيفة هآرتس، يمكن أن يكون الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم مؤهلي لذلك . الوضع الجديد ينطبق على “اليهود” ، الذين تحول أسلافهم عن اليهودية. ! أي مجتمعات “يهودية ناشئة” تبنت ممارسات يهودية؛ وأولئك الذين يدعون أنهم ينحدرون من اليهود “القبائل المفقودة”.
, على الرغم من أنه ستقدم لهم في البداية إقامة مطولة فقط في إسرائيل، فإن هذا يعني أن هذا سيكون بمثابة مقدمة لتوسيع حقهم في الحصول على الجنسية في نهاية المطاف. ميزة إسرائيل هي أن معظم هؤلاء “اليهود” غير اليهود يعيشون حاليا في مناطق نائية أو فقيرة أو مزقتها الحروب في العالم، ويستفيدون من حياة جديدة في إسرائيل – أو الأراضي المحتلة.
هذا هو النداء “العظيم” لأبناء الأمة المتشددين مثل نتنياهو وبينيت. !! إنهم بحاجة إلى أقدام راغبين في المعركة لسرقة الأراضي الفلسطينية، ودوس الحدود المعترف بها دوليا، والآمال في صنع السلام.
وعلى ضوء ما تقدم, تبين, أن تهويد فلسطين, من البحر إلى النهر, في الواقع الموضوعي, كان يستلزم مسارين متواكبين ومتكاملين: تهجير أعداد كبيرة من اليهود وتوطينهم فيها, وفي المقابل, تغييب شعبها عنها, بصورة أو بأخرى. إلا أن مقاومة الشعب الفلسطيني للاستيطان اليهودي جعلت منهما مسارين متناقضين, الأمر الذي عرقل المشروع الصهيوني ومنعه من التطور بوتائر متسارعة كما كان يتمنى أرباب المشروع التوسعي الأكبر, وبالتالي تسبب في خلق أزمة إستراتيجية ذات أبعاد قومية تمثلت بنوع خاص في استحالة تهويد فلسطين, طالما كان شعبها حاضراً, عسكرياً وثقافياً وسياسياً. وما من شك في أن المقاومة الفلسطينية بجميع أشكالها كانت عاملاً أساسيا في ردع وإحباط الهجرة اليهودية إلى فلسطين حتى ولو بصورة نسبية, ولاسيما وأنها كانت سبباً فاعلاً في عملية نزوح المستوطنين الوافدين في حركة هجرة مضادة بالغة الأهمية. الآن، (وليس بعد سنوات، مثلاً)، لا توجد «أغلبية يهودية بين البحر والنهر»، بل هناك تعادل سكاني. يعني؟ وداعاً لحلم إسرائيل اليهودية، فقد باتت خارج الممكن التاريخي والواقعي معاً، فلا الشعب الفلسطيني فني، ولا حلم الصهيونية اكتمل ولن يكتمل ومصيره إلى زوال.