شؤون العدو

ملثمون في تل أبيب

بقلم: جاكي خوري – معاريف 

حصل هذا في احد الايام الماطرة التي مرت على تل ابيب مؤخرا. فوفد من السلطة الفلسطينية حل ضيفا في المدينة الكبيرة على لقاء مع شخصيات عامة اسرائيلية. واحد إثر آخر صعد المجتمعون وتحدثوا. كيف انسحبت واشنطن من المسيرة السلمية، ما الذي يتسبب به الجمود المتواصل في المحادثات، ما هي المخاطر المستقبلية على الطرفين. واشار كل خطيب الى زاوية ما في المسألة، واقترح بعضهم الحلول. واذا كانت خلافات، فلم تدر هذه حول الحاجة الى السلام وحل الدولتين بل تعلقت بالطريق.

على رأس الوفد الذي جاء من رام الله كان مسؤولان كبيران أيضا. اسماهما سيعنيان قليلا للاسرائيليين، ولكنهما معروفان جيدا في الشارع الفلسطيني. احدهما عضو في المطبخ المصغر لابو مازن، من اولئك الذين يهمسون في اذنه. رفيقه، رجل الدائرة الثانية. كلاهما ضالعان في السياسة عندنا بقدر لا يقل عن الشارع الاسرائيلي. موضوع الاجتماع وصل الى آذان بعض الصحافيين، فتكبد بعضهم عناء المجيء. وفاجأ حضورهم الوفد من رام الله. وعندما بدأ الرجلان يتحدثان، طلبا اطفاء الكاميرات. فقد قالا غاضبين ان الزيارة ومضمونها ليسا للنشر.

انتهى الحدث، واعتزم الفلسطينيون التحرك. في موقف السيارات المجاور انتظرت السيارات، ولكن الرجلين تأخرا بضع ثوان. وجيدا جيدا لفا اللفحات حول الوجه، بشكل أخفى القسم السفلي من وجهيهما. واضاف واحد منهما قبعة. في الخارج كان يهطل المطر، وريح باردة كانت تهب. وكان التخفي تحت لباس دافيء مفهوما، ولكنه لم يكن اضطراريا. فالبرد التل ابيبي لطيف وبعيد عن البرد الشديد لرام الله. يحيطهما المرافقون والمساعدون، بوجوه مكشوفة، خرج الرجلان من المبنى. في الاسفل، بخلاف تقديرهما، لم يفاجئهما أي مصور أو صحافي. ومع وصولهما الى السيارات، كشفا عن وجهيهما. وسمع منهما تنفس للصعداء.

لقد سعى هذان الرجلان الى التخفي من كمين اعلامي ليس بسبب زعيمهما ابو مازن. فهو الذي بعث بهما الى هناك. فقد اخُتبئا من عين الجمهور الفلسطيني. واختباؤهما يفيد بمكانة الجمهور في قلب مسؤولي السلطة. فهم يشعرون جيدا بالتيارات العميقة في اوساطه، ويعرفون الحدود التي وضعها لهم. والخوف ليس انتخابيا. فهم لن يخضعوا للانتخابات. الخوف هو أنهم، رموز السلطة، سيبدون كمن ينبطحون أمام الاسرائيليين، في عصر ترتبط فيه حكومة اسرائيل بالبيت الابيض وتركل المسألة الفلسطينية. هذا واقع جديد، حتى قبل سنتين أو ثلاث سنوات، كانت زيارة الشخصيات الفلسطينية الى اسرائيل جزءا من الجهود لتحريك المسيرة السلمية. اما اليوم فهو يحاذي الخيانة.

المصيبة التي منعت

يوم الجمعة الماضي، في ساعات المساء، استدعى السكان الشرطة الفلسطينية الى طريق جانبي في منتصف الطريق بين طولكرم وجنين. على جانب الطريق اكتشف افراد الشرطة ثماني حفر صغيرة، خبئت فيها عبوات ناسفة بوزن 15 حتى 20 كيلو غرام لكل واحدة. وكانت بعيدة مترين، ثلاثة امتار الواحدة عن الاخرى وترتبط بخيوط. وبدت الحفر حديثة العهد، وتم الحفر بفظاظة، بشكل أضر بالاسفلت وجذب الانتباه، واستدعي خبراء المتفجرات من السلطة الى المكان وفككوا المفجرات. وبعدهم جاءت قوات الجيش الاسرائيلي وفجرت العبوات.

في حساب غليظ، زرع هناك نحو 150 كيلو غرام من المواد المتفجرة. هذه كمية ليست معدة بسيارة واحدة، بل بقافلة أو بباص. الطريق جانبي، والمنطقة قليلة السكان العرب أو اليهود. ومن أجل أن يمر الضحايا المرشحون عن الكمين، ينبغي اغراؤهم للاقتراب منه. يحتمل أن في المرحلة التالية، بعد الزرع، استهدفت الخلية افتعال حدث أمني محدود، كعملية ضد سيارة واحدة، تضخ الى المكان قوات غفيرة وعندها تشغل العبوات معا.

في لبنان كانوا يسمون هذه “ساحة عبوات”، احدى وسائل القتل الناجعة لدى حزب الله منذ خلصت اسرائيل نفسها من لبنان، قبل 18 سنة. من النادر أن تجد كهذه في المناطق الفلسطينية. وقد نفذت المهامة خلية وليس شخصا واحدا. فهي تتطلب معرفة واسعة في مهنة التخريب ونوايا مبيتة كبيرة. هذا عمل منظمة، والمشبوهون الفوريون هم حماس وحزب الله. للمنظمتين حساب مع اسرائيل. حساب طازج، مولده في اعمال اسرائيلية في غزة وفي اراضي لبنان.

لقد نشرت القصة بمبادرة رام الله. فمن المهم للسلطة ان تري جمهورها (والاسرائيليين ايضا) المخاطر التي تحدق بهم، ولماذا هناك حاجة لاجهزة أمن قوية. يمكن الافتراض بان اسرائيل والسلطة تتعاونان في التحقيق. تصوروا واقعا لا يكون فيه هذا التعاون موجودا. ان يقيم حزب الله أو حماس خلايا قتل كهذه من بعيد. تصوروا ان تغرى قوات الجيش الاسرائيلي للوصول الى الساحة وتشغل العبوة. وبعد المصيبة تبقى اسرائيل للتحقيق فيها وحدها. لتجد الخلية في داخل كومة القش، تعتقل رجالها في مصران مدينة معادية، وتفعل كل هذا تحت ضغط القنبلة المتكتكة، خشية أن تهاجم الخلية مرة اخرى. تصوروا ان تكون في المنطقة بضع خلايا وليس واحدة. تصوروا ان يكون الضباط في الاجهزة الفلسطينية، اولئك الذين يساعدون كرجل واحد جهاز المخابرات الاسرائيلي في التحقيق في العملية، يتمردون على السلطة، بسبب ضعفها أو يتلقون أوامر من فوق لضرب أهداف اسرائيلية. في الماضي كنا في هذا الفيلم. وفي اليوم الذي يتضعضع فيه استقرار رام الله، قد تتطور كرة ثلج تعيد تلك الايام. المؤامرة التي احبطت هي جرس تحذير للطرفين. فالتعاون الامني هو بوليصة تأمين مركزية ضد سفك الدماء. ومن يساهم في اضعافه، سيتحمل المسؤولية عن فقدان حياة الناس.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى