مئة عام على وعد بلفور: دستور السياسة الاستعمارية في فلسطين
ابراهيم أبو ليل
لم يكن صدور وعد بلفور المشؤوم 1917 حدثاً طارئاً بين عشية وضحاها، وإنما جاء تتويجاً لمسار طويل من التفكير والتخطيط الاستعماري الصهيوني البريطاني الذي تبلور في المؤتمر الصهيوني الأول 1897، إذ أصبح تحقيق البرنامج الصهيوني بشكل فعلي أكثر احتمالا من أي وقت مضى. وقد جاءت رسالة وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور إلى اليهودي اللورد روتشلد تجسيداً لتطلعات الصهيونية في «إقامة وطن للشعب اليهودي يضمنه قانون الشعوب»، حيث جمعت هذه الرسالة المبادئ الأساسية للصهيونية في وثيقة رسمية حكومية، هي الوثيقة الدولية الأولى التي تحقق الحلم الصهيوني بإقامة «الدولة اليهودية» في فلسطين.
يرتبط وعد بلفور بالتوجهات الاستعمارية بعيدة المدى، التي نشأت في ظل التحولات التي شهدتها أوروبا بعد العصور الوسطى، إضافة إلى الأحداث العالمية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، التي تواكبت فيها ثلاثة عوامل هي (المسألة اليهودية، وتحول الرأسمالية الأوروبية إلى رأسمالية احتكارية، وظهور المسألة الشرقية مع بداية انهيار الدولة العثمانية). وجاءت محاولات والي مصر محمد علي باشا بناء دولة عربية عام 1840، بعد أن سير جيشه إلى فلسطين وحقق انتصاراً ساحقاً على الجيش العثماني 1831، بمثابة جرس إنذار نبه القوى الكبرى المتصارعة على مناطق النفوذ الاقتصادي في العالم، إلى مخاطر قيام دولة قوية في منطقة شرق البحر المتوسط على حساب الدولة العثمانية. وكانت كل من فرنسا وروسيا قد وجدتا موطئ قدم في الدولة العثمانية، من خلال طرح فرنسا نفسها بوصفها حامية الكاثوليك بشكل عام، وبشكل خاص الموارنة، في حين انتزعت روسيا امتياز حماية اليونانيين والأرثوذكس، واحتلت بريطانيا المواقع الإستراتيجية والاقتصادية في شبه الجزيرة العربية بالاتفاق مع بعض مشايخ الخليج، ووقفت بعنف ضد دولة محمد علي. وفي ذلك الوقت حظيت فكرة بعث «إسرائيل التوراتية»، بدعم مجموعة من كبار الشخصيات السياسية البريطانية مثل أنتوني أشلي كوبر، الذي حمل لقب «لورد شافستبري»، ونشر في عام 1839 مقالاً مطولاً عن «دولة اليهود» الموعودة. وكان هذا الشخص هو من ابتدع شعار «وطن بلا شعب لشعب بلا وطن»، نتيجة قناعته بأن فلسطين بلد هجره سكانه. وضمن هذا السياق مال اللورد بالمرستون، وزير خارجية بريطانيا، لتأييد أفكار اللورد شافستبري، المتعلقة بالمكاسب السياسية التي يمكن أن تحققها بريطانيا من توطين اليهود في فلسطين.
وقد اقترح اللورد بالمرستون عام 1840 إقامة مستعمرة بريطانية في المنطقة، من أجل سيطرة بريطانيا على الشرق الأدنى وبالتحديد (سورية) من أجل حماية طريق الهند، وحماية مصالحها في شبه الجزيرة العربية. لكنها تحتاج إلى المال والعمل، حيث تحدث بالمرستون عن اليهود بوصفهم تجاراً بارزين وقال: (إن سورية تحتاج إلى رأسمال وسكان، واليهود يستطيعون تزويدها بالأمرين). وقد أصبحت أهمية فلسطين «جنوب سورية»، في الخطة البريطانية الاستعمارية تنبع من قربها من مصر، حيث إن اللورد كتشنر أحد المؤيدين الرئيسيين للسياسة الشرقية الجديدة دعا حكومته «لتأمين فلسطين كحصن لبريطانيا في مصر وكحلقة وصل برية مع الشرق».
في هذه الأجواء الاستعمارية الفكرية والسياسية، وبعد فترة من الدعوات التي جاءت على العموم من خارج صفوف اليهود، لتوطينهم في فلسطين وتوظيفهم في خدمة المصالح الإمبريالية، بدأت تبرز دعوات يهودية فردية تدعو إلى اعتناق الصهيونية عقيدة وممارسة، وإقامة مستعمرات يهودية في فلسطين. وكان الصحافي اليهودي النمساوي تيودور هرتزل (1860- 1904 ) مؤسس الصهيونية السياسية فكراً وتطبيقاً، هو المعبر الأبرز عن الجمع بين أوضاع اليهود والصهيونية، حيث تفوق على سابقيه في إدراكه لتجسيد المشروع الصهيوني وضرورة ربطه عضوياً ومصيرياً بالمشروع الإمبريالي إزاء منطقة الشرق الأوسط، إذ لم تقتصر علاقة الصهيونية بالاستعمار على التوافق فيما بينهما بل أصبحت فرعا منه. ففي عام 1896 جمع هرتسل أفكاره في كتاب بعنوان (دولة اليهود) وحدد أدوات مشروعه: (جمعية يهودية) للإعداد السياسي والعلمي و(وكالة يهودية) للتنفيذ العملي و(براءة دولية) من إحدى الدول الكبرى. ويتم ذلك عن طريق شراء وطن لهم في فلسطين أو أوغندا أو الأرجنتين أو غيرها، إذ كانت فلسطين مطروحة بجدية في الأوسط الصهيونية (وطناً قومياً لليهود). وبعد عام من نشر كتابه نجح هرتزل في عقد المؤتمر الصهيوني الأول برئاسته في مدينة بازل (بال) في سويسرا عام 1897 وبحضور 197 مندوباً عن الهيئات والمنظمات والجمعيات الصهيونية المتعددة في العالم. وقد تم في المؤتمر تأسيس (المنظمة الصهيونية العالمية) التي ركزت عملها في جبهتين: يهودية، من أجل استقطاب اليهود للمشروع الصهيوني. ودولية، من أجل كسب التأييد الدولي لهذا المشروع، حيث قرر المؤتمر (أن غاية الصهيونية هي إيجاد وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، يضمنه القانون العام). وقد مات هرتسل عام 1904 دون أن يحقق حلمه بالحصول على البراءة الدولية.
في المؤتمر الصهيوني الحادي عشر 1913 آخر المؤتمرات الصهيونية قبل الحرب العالمية الأولى، كانت هيمنة التيار الصهيوني العملي تتعزز بتحالفه مع تيار (التوفيقيين) بقيادة اليهودي الروسي حاييم وايزمن. وقد لعب هذا التحالف دوراً ملموساً في النشاط الاستيطاني الصهيوني في فلسطين على نطاق واسع، حيث جرى التأكيد على أن نجاح المشروع الصهيوني لا يتوقف على البراءة الدولية، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى التي شكلت مناخاً لصدور وعد بلفور عام 1917 كثمرة لمرحلة طويلة من العمل الصهيوني للحصول على الرعاية الدولية للمشروع الصهيوني. ويذكر بلفور واضع هذا الوعد في مذكرة بتاريخ 11/8/1919 موجهة إلى وزير الخارجية البريطاني كيرزون الذي خلفه، يشرح فيها وعد بلفور والموقف منه، مشيراً إلى أن فلسطين تمتد لتشمل الأراضي الواقعة شرق نهر الأردن فيقول: «القوى العظمى الأربع بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، ملتزمون بتأييد الصهيونية سواء كانت على حق أو باطل، خيّرة كانت أم شريرة، فهي في جذور تقاليدنا وضمن احتياجاتنا الحاضرة وآمال المستقبل، وأكثر أهمية بما لا يقاس من رغبات سكانها العرب الحاليين وأنهم لن يستشاروا. والقوى العظمى لم تصدر أي بيان بالحقائق لم تعترف بأنه باطل، ولم تصدر أي تصريح بسياساتها لم تكن نيتها دائما أن تخالفه». وكان بلفور يمتلك رؤية إستراتيجية استعمارية عميقة، حيث أشار في مذكراته إلى أهمية السيطرة على منابع المياه في سورية، على الرغم من معرفته بأن اتفاقية سايكس بيكو أدرجت منابع المياه الجوفية في الجولان ضمن الأراضي السورية. وعلى عكس ما تشيع الأوساط الصهيونية حول حيادية نص إعلان بلفور، وتضمينه مواقف ضامنة لحقوق سكان فلسطين، كان تطور الأمور واضحاً في ذهن بلفور الذي كتب في مذكراته الخاصة بسورية وفلسطين وما بين النهرين: «ليس في نيتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين ……وسواء كانت الصهيونية على حق أو على باطل، جيدة أم سيئة، فهي متأصلة الجذور في التقاليد قديمة العهد وفي آمال المستقبل، وهي تفوق في أهميتها بكثير رغبات وميول السبعمئة ألف عربي الذين يسكنون الآن هذه الأرض القديمة».
ومنذ أن وُضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني في مؤتمر سان ريمو عام 1920، أصبح وعد بلفور دستور السياسة البريطانية في فلسطين، حيث تضمن صك الانتداب في المادة الثانية منه على أن تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد، في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي. وقد أقرت عصبة الأمم ذلك في 24/7/1922. وإذ أصبح وعد بلفور جزءاً من صك الانتداب، فقد صار وثيقة دولية صادقت عليها الدول الاستعمارية آنئذٍ، كما هو الوضع القائم حالياً، حين تصادق الولايات المتحدة أو تعارض مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي، فإن صادقت عليه أصبح مشروع القرار قراراً دولياً، وإن صدر القرار بموجب الفصل السابع أصبح قراراً آمراً وملزماً لجميع الدول. كما أن بريطانيا، إدراكاً لمسؤوليتها الدولية، وضعت نفسها تحت رقابة واشراف مجلس عصبة الأمم، لكي تستطيع أن تدافع عن نفسها بقولها: إنها كانت تتصرف بناء على قرار المجتمع الدولي في ذلك الوقت.