مقالات وآراء

قوارب الموت على سواحل المتوسّط: مسافة الحلمِ بين موتين أو أكثر

“إننا نموت على نحو بطيء وقاسٍ هنا؛ فإمّا نموت في البحر بسرعةٍ ونرتاح، وإما ننجو لنبدأ حياة حقيقية في مكان جديد”. كلمات الوداع الأخيرة التي قالها أحد ضحايا قارب الموت الأخير لأصدقائه في شمال لبنان.

“إنّهم يسرقون رغيفك، ثمّ يعطونك منه كسرة، ثم يأمرونك أن تشكرهم على كرمهم، يا لوقاحتهم!”. الشهيد غسان كنفاني.

إنها واحدة من أصعب الرهانات وأقساها في حياة المرء؛ أنْ يختار اقتحام أكثر دروب المجهول خطراً وحلكةً، وهو يقبض على

نسبةٍ لا تكاد تبلغ 1% على مقياس النجاح أو النجاة، في الوقت الذي يعلم أيضاً، في حال رجحت كفة تلك النسبة الضئيلة،

أنَّ أمامه رهانات جديدة وعديدة في تلك البلاد البعيدة، فإمّا أنْ يقبض عليه ويعاد إلى بلاده مكبّلاً، وإما أن يبدأ لهاثاً جديداً

وطويلاً على دروب الإقامة والعمل ومحاولات الاندماج في مجتمع مختلف تماماً عن البيئة التي وُلد ونشأ فيها.

إنّه رهان بحجم الحياة كلّها، وبحجم الموت أيضاً، فما الذي يدفع أيّ إنسان إلى اقتحام مغامرة الحياة والموت تلك عن سابق

إصرارٍ وقصد؟ وما الذي جعل بلادنا خزاناً لليائسين والمقهورين والحالمين والمغامرين؟

في الوقت نفسه الذي كنا نتابع بغضبٍ وحزن شديدين آخر أخبار ركّاب قارب الموت الأخير الذي انطلق فجر الثلاثاء الماضي

من منطقة الميناء في طرابلس، وغرق بعد ساعات قليلة قبالة شواطئ مدينة طرطوس السوريّة، كان هناك إخوة لنا في

مصر وليبيا يستجدون أيّ خبر صغير عن أحبّاء لهم ضلّت قوارب هجرتهم المتهالكة طريقها في البحر وفقِد الاتّصال بهم، أو

ألقي القبض عليهم في المياة الإقليمية لإحدى الدول الأوروبيّة.

فلسطينيون وسوريون ولبنانيون وعراقيون وليبيون ومغاربة وأفارقة تلاشت الفوارق الطائفية والإقليمية والعرقية بينهم، بعدما

ألقوها على اليابسة قبل صعودهم المركب واتّحادهم في حلمٍ واحد ومصير واحد، ليصبحوا فقط أهل جنوب العالم المتخم

بالثروات والغذاء والويلات والاحتلالات والدمار والفساد، الهاربين باتّجاه حلم الشمال؛ الشمال ذاته الذي دأب على مدى مئات

السنين في نهبهم وسرقتهم واحتلالهم وتدمير بلادهم وحصارها ومنعها من التنمية والنهضة بأيّ ثمن، وتنصيب الفاسدين

فيها وحمايتهم بأيّ ثمن أيضاً.

تلك مفارقة ومحاكمة عقلية وإنسانية وسياسية واقتصادية فاصلة في التاريخ والحاضر والمستقبل لا يمكن القفز عنها

والاقتصار على الحديث عن ركّاب مراكب الموت وآمالهم وآلامهم وأوجاع أهليهم.

يجب بدء الحوار من النقطة الأولى، وبإسهابٍ شديد، قبل الوصول إلى النتائج المروّعة والخوض في تفاصيل عمليات التهريب

والدلالة على تجّار الموت ومافيات الهجرة غير الشرعية، واللوعة على الضحايا الأبرياء الذين سقطوا على هذا الطريق.

وبناءً عليه، يُلقي الفلسطينيّ، المعلّق منذ عشرات السنين في إحدى الدول العربية، بنفسه في بحار الهجرة المميتة، لأنّه

مطرود من بلاده المحتلّة والمنهوبة والمسروقة، وممنوع عليه العودة إليها، ولأنّ أهله الذين بقوا هناك على تلك الأرض، يختبرون منذ أكثر من 75 عاماً، أطول مجزرة في التاريخ، وكلّ هذا برعاية وحماية وإشراف من حكومات دول الحلم الشماليّ، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.

ثمّ بعد هذا، لأنّه مُكدّس في مخيّمات اللجوء في معظم الدول العربية، وممنوع من العمل أو الإنتاج أو حتى وضع لوح توتياء

مهترئ على سقف بيته في الشتاء، لأنّ هذا يُشكّل خطراً على سلامة وسيادة ونهضة الطائفية والإقليمية العربية المجيدة،

أو خشية الدفع باتّجاه توطينه وإلغاء حقّ عودته إلى بلاده. لهذا وغيره كثير، يصعد هذا الفلسطينيّ إلى ذاك القارب، ويضع حياته كلّها في مفاضلة مع الموت كلّه.

أمّا العراقيّ والسوريّ والليبيّ واللبنانيّ، فقصصهم متشابهة إلى حدّ كبير، وهي دوماً تبدأ من النقطة التي قرّرت فيها الولايات

المتحدة والغرب “تحريرهم” من دولهم ومؤسساتهم ومزارعهم وقمحهم ونفطهم وغازهم وبيوتهم وحيواتهم، ثم حاصرت من

بقي منهم على قيد الحياة والأمل والإصرار على المواجهة، ومنعت عنهم الغذاء والدواء وأدوات إعادة البناء والترميم في كل

المجالات (لمصلحتهم بالطبع، كما يقول المسؤولون الأميركيون والغربيون)، ليتكفّل الفساد والفاسدون في الداخل، الذين

تغوّلوا بطريقة وحشية بعد تلك الحروب، واستلهموا سبل وأساليب الغرب في الحصار والتجويع والنهب، بإطباق الحصار أكثر

على المواطن الفقير في أدق تفاصيل حياته اليوميّة، ليقطعوا عليه كلّ طرق معيشته، بما فيها زواريبها الضيقة جدّاً، حتى

حوّلوا حياته إلى جريٍ محموم خلف لقمة عيش لا تسدّ الرمق إنْ وجدت، وحتى بات عاجزاً عن تأمين أبسط مستلزمات

العيش (الكريم والذليل معاً)، حالماً بالماء والكهرباء والدواء، وصولاً إلى استبدالها بحلم الهجرة كيفما اتّفق، بعدما تحوّلت

تلك الأحلام إلى كوابيس.

ثم بعد هذا كلّه، وبين أسباب الهجرة التي باتت لا تُعدّ ولا تحصى، هناك سبب وجيه ومهم لا يجب إغفاله، هو أنّ الكثير منّا

قرّر الاستسلام وعدم مواجهة كلّ تلك الأسباب ومفتعليها، إمّا لأنه عاجز بالفعل، وما عاد لديه أدنى طاقة على خوض هذا

الصراع المرير الذي تجاوز القتال ضدّ المسبّب الخارجيّ الرئيسيّ، وبات يبدأ كلّ صباح من اللقمة والثوب، ولا ينتهي عند الذلّ

على أبواب المستشفيات والمؤسسات، وفي مواجهة الموظّفين الذين بات الكثير منهم ينظر إليه باعتباره فريسةً أو غنيمة،

وإما لأنّه يرى أنّ الحلم الغربيّ عظيم وسهل وجميل، ويستحق المجازفة بالحياة لأجله، من دون أنْ يلتفت إلى تجارب الآخرين

الملأى بالذل والإذلال والقهر في الشمال الرأسمالي الذي يمقت الفقراء والمختلفين الذين لا مصلحة في إيوائهم، بل من دون

أنْ يعير أيّ اهتمام لأسباب هجرته الرئيسية التي يستطيع أنْ يكتشف بعضها عند زيارته أقرب متحف في مدن الغرب الكبرى،

حين يرى أوابد أجداده وآثارهم معروضة هناك.

يكفي هنا أنْ يلتفت البعض وينظر بإمعانٍ إلى صورته التي تعكسها واجهات المحال، ليكتشف أنه هو نفسه من “الأشياء”

التي سُرقت من بلاده البعيدة، كي تعمل وتنتج هنا، وربما يسمع ذاك الصوت الواضح والخفيّ في آنْ: لقد دمّرنا بيتك في

فلسطين أو العراق أو سوريا أو ليبيا أو اليمن، ومنعنا عنك حتى “الهبات” من أصدقائك في لبنان، وحاصرناك ورعينا كلّ

الفاسدين في بلادك وحميناهم منك، لكننا نستقبلك هنا ونعطيك “كسرة الخبز” التي أخبرك عنها كنفاني (الذي قتلناه

بالمناسبة، لأنه كان يفتح بصيرتك على هذا وغيره)، أمَا من كلمة شكرٍ على كلّ هذا الكرم؟

لا يكاد يمرّ يوم تخلو فيه بحار الشرق من قوارب صغيرة ومتهالكة، تحمل مئات المهاجرين سرّاً وتحت جنح الظلام، بعدما

وضعوا حيواتهم بين أكفّ مهرّبين لا وجود للرحمة في قلوبهم، ولا هدف لهم سوى جني أكبر مبلغ من المال.

قوارب لا يتسع الواحد منها لثلاثين أو أربعين راكباً، يُكدّس فيها مئات الشباب والرجال والنساء والأطفال. وفي لبنان وسوريا،

تحالف هؤلاء المهرّبون مع بعضهم البعض، ليتبادلوا الخبرات والركّاب (البضاعة) والأموال والقوارب، فالمعلومات المتداولة هنا

تتحدّث عن قوارب يومية تنطلق بشكل سرّي من شواطئ لبنان وسوريا، تنجح السلطات أحياناً في اعتراضها وإعادة

المهاجرين إلى بلادهم، كما تنجح أحياناً في القبض على بعض المسؤولين عن قوارب الموت هذه، كما حدث قرب شواطئ

اللاذقية قبل أسابيع قليلة، إذ تمّ اعتراض مركب يحمل مئات المهاجرين والقبض على قبطانه والمتورّطين في عملية التهريب

تلك وعمليات أخرى عديدة، وكما حدث أيضاً في لبنان عدّة مرات خلال الأشهر الأخيرة.

ولعلّ حادثة اعتراض زورق دوريّة تابعة للجيش اللبناني قارب هجرة غير شرعي في نيسان/أبريل الماضي، والتي أسفرت

عن وفاة عشرات الأشخاص نتيجة رعونة قبطان المركب، ما تزال حديث الناس حتى اليوم.

المؤكّد، وفقاً لكل الوقائع والمعطيات، أنّ “مافيا” تهريب البشر عبر البحر في لبنان وسوريا باتت أقوى من أيّ وقت مضى، إذ

إنها تمتلك من الأدوات والقدرات المالية والنفوذ ما يجعل أمر تفكيكها صعباً جدّاً على السلطات.

هذه الشبكات ترتبط ببعضها البعض، وبنافذين مستفيدين يحمونها في الداخل، وبشبكات وأفراد في الدول الأوروبية، لكنّ

هذه العصابات التي طوّرت قدراتها ونفوذها لم تعمل أبداً على تطوير أدوات التهريب، فالمراكب لا تصلح حتى للصيد في

المياه القريبة، بل إنّ هناك معلومات عن نقص شديد في المراكب في شمال لبنان، وإنّ المهرّبين باتوا يشترون أو يستعيرون

مراكب من نظرائهم السوريين في مقابل مبالغ عالية، إذ يُشترى مركب الصيد من سوريا بنحو 40 ألف دولار، فيما يستأجر

بـ10 آلاف دولار للرحلة الواحدة، مع رهن ثمنه كاملاً لحين عودته سالماً، في حين يجني المهرّبون من كلّ رحلة تحمل بين

130 و200 راكب أكثر من 300 ألف دولار، فلكلّ راكب تسعيرته؛ فهناك ثمن للصغير وآخر للكبير، مثلما هناك ثمن للعوائل

وللفرد الواحد.

ولا يبدو أنّ عمليات التهريب هذه ستتوقّف، لأنّ المستفيدين كثر، والراغبين في الهجرة أكثر، ويكثرون كلّ يوم، بسبب ازدياد

صعوبة الحياة وقساوتها كل يوم، وانعدام الأمل القريب بتغيّر الظروف لدى الكثير من الناس، وبالتالي فإنّ مجتمعنا سيبقى على موعد مع مأساة جديدة فجرَ أو مساءَ كلّ يوم.

ما يجب الإشارة إليه أخيراً حول المأساة الأخيرة التي أودت بحياة أكثر من 90 شخصاً من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين،

هو سرعة استجابة السلطات السورية ومؤسساتها الصحية في طرطوس حيال الحدث الفاجع، ووضع كلّ الإمكانيات في

خدمة البحث والإنقاذ والرعاية الصحية، ثم نقل الضحايا إلى ذويهم داخل سوريا وعلى الحدود اللبنانية.

وهناك صورة ناصعة ومؤثرة بدت من قلب كلّ هذا الألم، هي مشهد أهل جزيرة أرواد السورية وشباب مدينة طرطوس، الذين

ألقوا بمراكبهم وبأنفسهم في البحر، في سعي محموم لإنقاذ الناجين وانتشال الضحايا، كذلك تجمّع المئات من أهل المدينة

أمام مستشفى “الباسل” لتقديم ما يمكن تقديمه للناجين، وكأنهم إخوة لهم تجمعهم روابط وأواصر لا حصر لها، ربّما جاء في

مقدّمتها: الفقر والحلم والكوابيس الواحدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى