شؤون العدو

غزة الأُخرى: قطاع غزة بين الطريق المسدود وبصيص الأمل

بقلم: يوآف (بولي) مردخاي، ميخائيل ملشتاين، يوتام اميتي

          مقدمة

قطاع غزة يمر مؤخرا بعمليات داخلية تزيد من حدة الطريق المسدود الذي وجه نفسه فيه، من ناحيتين اساسيتين: الاولى، الفشل المتواصل لسلطة حماس في خلق واقع يخرج سكان القطاع من دائرة الفقر والاهمال الغارقين فيها (رغم أنه ما زال يحافظ على ردعهم من الانتفاض ضده). الثانية، نمو جيل جديد غاضب ومحبط وليس له أفق جماعي وشخصي، يسعى للتأثير على الرأي العام في القطاع، والذي مواقفه بالنسبة للنزاع مع اسرائيل متطرفة مقارنة مع الاجيال السابقة. معنى هذا الامر هو أن سلطة حماس من شأنها في المستقبل أن تظهر في نظر الجيل الجديد وكأنها لا تفهمه ولا تتكلم لغته وغير ملتزمة باحتياجاته، الامر الذي سيؤثر على استقرار هذه المنطقة. الحقيقة هي أن الحديث الآن لا يدور عن جيل يعمل تحت جسم مشترك، بل بالاساس تحت بدايات انتظام فكري، لكن يمكن الادعاء أن تأثير هذا الجيل الجديد على تشكيل الوعي السائد في القطاع، يفوق تأثير حركة حماس.

من المهم الاشارة الى أن الجيل الجديد في القطاع يعتمد على مجموعة سكانية شابة نسبيا (أبناء 15 – 30 سنة)، الذين “لم يعرفوا اسرائيل” والذين معرفتهم للجيران اليهود تتم تغذيتها بالاساس من المواجهات مع الجيش الاسرائيلي والتي تحدث مرة كل بضع سنوات. كما يبدو يمكن الاستنتاج من وضع كهذا بأنه كلما زاد البعد المعرفي بين غزة وتل ابيب، يقل الاعتماد الاساسي لسكان القطاع على اسرائيل. ولكن الواقع الفعلي مختلف. إن استخدام وسائل الاعلام والشبكات الاجتماعية والقدرة على التأثير على جهات دولية والانفتاح على العالم الخارجي، تخلق في اوساط الجيل الجديد وعي يتهم اسرائيل بالاساس بالواقع الذي نشأ في القطاع، ويعزو لها المسؤولية عن البنى الاساسية ووسائل العيش والسكان، حتى أكثر من السابق. نتيجة ذلك هي أن غزة واسرائيل تظهران الآن مثل توأمين سياميين، فُصلت رؤوسهما ظاهريا كما يبدو، لكن ليس بامكانهما الانفصال الواحد عن الآخر. اضافة الى ذلك، بين الرأسين يزداد الاغتراب والكراهية – في الاساس لأن ابعاد التفاعل والمعرفة الحقيقية بينهما آخذة في التناقص.

هذا المقال يعرض الواقع المتشكل في قطاع غزة، الذي يزداد خطورة في نظر السكان – ليس فقط من الناحية الاقتصادية المتمثلة بالفقر والبطالة، بل ايضا من الناحية السياسية والوعي. في بؤرة المقال سيتم عرض الصعوبات وحالات الفشل التي تميز سلطة حماس في قطاع غزة في الوقت الحالي، وكذلك ملامح الجيل الجديد الذي نما في القطاع والتوقعات التي يطورها نحو الجهات الحاكمة فيه، بهدف جلب وجه معروف بصورة أقل لمراكز القوة في هذا الفضاء، وفحص التأثيرات المحتملة لها على مستقبل القطاع. في القسم الاخير من المقال يتم اقتراح مسارات عمل ممكنة لتغيير الواقع في قطاع غزة وايجاد بصيص أمل لسكانه.

       نظام حماس في قطاع غزة: صورة الوضع

خلال العقد الاخير، منذ سيطرت حماس بالقوة على قطاع غزة في حزيران 2007، راكمت المنظمة تجربة الحكم. هذا بعد حوالي عشرين سنة خلالها اعتادت المنظمة العمل في ظروف سرية وكمعارضة للنظام القائم (سواء اسرائيل أو السلطة الفلسطينية). هذا الانقلاب على طريقة حماس منحها قوة ومكانة غير مسبوقة، الى جانب تطوير ارادة بارزة في مواصلة تثبيت نفسها كقائدة للساحة الفلسطينية. ولكن المكانة الجديدة ألقت على حماس ايضا عدد من القيود والضغوط التي لم تعرف مثلها في السابق، وعلى رأسها الحاجة الى الاهتمام باحتياجات الجمهور الواسع، وأن توازن تحقيق افكار المعارضة والجهاد ازاء الضغوط المرتبطة بمشاعر الجمهور وقدرته على تحملها (الامر الذي وجد تعبيره القوي في “الجرف الصامد”، وهي المواجهة العسكرية الاشد التي شهدتها الساحة الفلسطينية بشكل عام وقطاع غزة بشكل خاص منذ عشرات السنين).

على الرغم من أن حماس أصبحت السيد، إلا أنها لم تنفصل تماما عن هويتها السابقة كحركة مقاومة مقاتلة، التي محركها الرئيسي هو فكرة المقاومة. فعليا، تعززت حماس في العقد الاخير ككيان مهجن يجمع بين النظام الحاكم والحركة. وقد طورت في الحقيقة اجهزة حكم رسمية – مدنية وعسكرية – وعززت صورتها في الداخل والخارج كالسيد في  القطاع، لكن في نفس الوقت استمرت في الاشراف على اجهزة حركية توجد خارج مجال النظام الحاكم. في هذا السياق برز في الاساس الذراع العسكري لحماس (كتائب عز الدين القسام) والجهاز السياسي والمدني (الدعوة) التابع للحركة. هذه الفضاءات تواصل الوجود بارتباط عميق بينها، غالبا خلف الستار، في الاساس بين الذراع العسكري وجهاز الامن الداخلي، وبين مؤسسات الحركة ومكاتب الحكم المدنية.

في نفس الوقت، فان سكان قطاع غزة استقبلوا وبصورة ايجابية، وتقريبا طبيعية، حكم حماس كحركة نمت داخل المجتمع، وواصلت القيام بنشاطات مدنية متشعبة من اجل الجمهور، وأن تأخذ الطابع الشعبي. هذا النظام اعتبر شيئا مختلفا في اوساط السكان مقارنة مع خصائص حكم فتح والسلطة الفلسطينية، التي تحولت خلال السنين الى ذوي صورة فاسدة وغريبة. ولكن مع مرور الوقت يبدو أن حماس وجدت صعوبة في الحفاظ على صورتها وعلى معاقل دعمها التقليدية، وفي نهاية عقد من الحكم طرحت قائمة انجازات باهتة جدا: القطاع واجه ثلاث مواجهات عسكرية شديدة جدا بسبب رغبة حماس في الحفاظ على مجال عملها العسكري في مواجهة اسرائيل، وتدهورت اوضاع الغزيين جدا مقارنة مع الفترة قبل 2007، بسبب القيود التي وضعتها اسرائيل على القطاع (في مجال الحركة من المنطقة واليها وفي الاقتصاد)؛ حماس نفسها عانت من ضائقة استراتيجية شديدة في السنوات الاخيرة، ازاء فقدان دعامة معسكر المقاومة الذي تفكك.

ولكن رغم الضائقة المتواصلة في القطاع والاغتراب المتزايد بين السكان في غزة وحكم حماس، يبدو أن المنظمة تستمر في الحفاظ على مكانة مسيطرة في القطاع. اضافة الى ذلك، في المرحلة الحالية لم يظهر أي مؤشر بعد على تهديد سلطتها من الداخل، والجمهور يظهر رهبة شديدة من العمل ضدها، بالاساس في اعقاب الخوف من رد عدائي. في نفس الوقت، القوى الاخرى في الوقت الحاضر تعتبر محدودة جدا مقارنة مع قوة حماس. في هذا السياق يمكن الاشارة الى الجهاد الاسلامي وفتح وممثلي السلطة الفلسطينية والتيار السلفي الذي يتكون من عدة تنظيمات منشقة وقادة محليين ليس لهم انتماء سياسي. في الوضع الراهن تميل جهات فلسطينية من الداخل والخارج الى اعتبار حكومة حماس أهون الشرين، والافضل من البديل المتمثل بالفوضى في الحكم أو صعود جهات اكثر تطرفا منها – حيث تمثل حالة العراق وحالة سوريا اشارة تحذير.

على خلفية ذلك فان التحدي الرئيسي الذي يهدد الآن حكم حماس يتمثل في الاساس في البعد الاجتماعي – الوعي الذي يتأثر بدرجة كبيرة بالعامل الديمغرافي. هنا يدخل الجيل الجديد، الذي يحمل خصائص تختلف عن جيل آبائه ويثير القلق في اوساط الجهات الحاكمة بشكل عام في الساحة الفلسطينية. هذا جيل محبط، اجزاء كبيرة منه حصلت على التعليم، يجدون صعوبة في ايجاد اماكن عمل، ولا ينجحون في تحسين مستوى الحياة ورؤية أفق شخصي وجماعي. كذلك الحديث يدور عن جيل منفتح على الشبكات الاجتماعية ويدرك مستوى الحياة في الغرب ويريد تبنيها لنفسه، لذلك، هو يحتج ضد مصادر السلطة وحتى أنه يظهر احيانا نظرة متحفظة من الايديولوجيا التقليدية لهم واهدافهم الوطنية.

ايضا السلطة الفلسطينية تمكنت من لمس احتجاج هذا الجيل الجديد الفلسطيني على جلدها، عبر موجات العنف التي تطورت في السنوات الاخيرة في الضفة. حكم حماس في قطاع غزة لم تشهد بعد تهديدا مشابها، بالاساس بسبب الخوف العام الشديد منها – بما في ذلك في اوساط الشباب. مع ذلك، يبدو أن حماس تدرك أن المسألة مسألة وقت، وازاء سابقات حدثت مؤخرا في الشرق الاوسط في “الربيع العربي” يمكن أن ينمو ايضا في قطاع غزة نوع من “بو عزيزي الغزي” الذي خلال عملية احتجاج غير مخطط لها أدى الى اشعال قنابل الغضب لآلاف الشباب. التي يمكن أن توجه نحو الحركة كونها الجهة الحاكمة في قطاع غزة.

       الجيل الجديد في قطاع غزة كبديل للنظام الحاكم

أبناء الجيل الجديد في قطاع غزة هم شبان يوجدون في بداية عملية التشكل. هذا الجيل يشكل مجموعة قوة ديمغرافية ويعتبر مثقفا نسبيا مقارنة مع اجيال سبقته، لكن ايضا ينقصه الافق الشخصي والجماعي لرؤية مستقبلية. نتيجة ذلك فان الجيل الجديد يشعر بأنه سجين في فضاء فقير ومهمل وغريب عن مراكز القوة في محيطه. هذا الادعاء يجد تفسيره في الجدول التالي – الذي يظهر معطيات التعليم والتشغيل في قطاع غزة.

  قطاع غزة – صورة الوضع معنى الجيل الجديد في القطاع
الثقافة 92 ألف شخص من السكان ذوي تعليم فوق ثانوي (أقل من 5 في المئة من سكان القطاع) 40 ألف من ذوي ثقافة فوق ثانوية في القطاع هم من ابناء 20-30 (15 في المئة من اجمالي عدد السكان)
البطالة نسبة البطالة 44 في المئة (220 ألف عاطل عن العمل من قوة عمل تقدر بـ 500 ألف شخص، الذين متوسط أجرهم هو 60 شيكل في اليوم) نسبة العاطلين عن العمل من ذوي التعليم العالي اكثر بـ 1.5 ضعف من نسبة العاطلين غير المتعلمين أو من غير الحاصلين على شهادة الثانوية (بالاساس لانهم يجدون صعوبة في ايجاد عمل مناسب)
التشغيل 17 في المئة فقط المنضمين المحتملين الى سوق العمل وجدوا اماكن عمل في النصف الثاني من 2016 (حوالي 3 آلاف شخص من مجموعة سكانية تبلغ 17 ألف شخص) 65 في المئة من العاملين هم عاملون بشكل مؤقت و/أو ليس لديهم عقد عمل (متوسط الزمن لايجاد عمل – سنة ونصف تقريبا)

في نفس الوقت يمكن الادعاء أن الجيل الجديد في القطاع يشكل نموذجا لما يجري في الساحة الفلسطينية، سواء بالغضب المكبوت الذي يعبر عنه أو الافكار الايديولوجية التي أخذها عن الشباب الموازين له في الضفة الغربية، ومن “الربيع العربي” ونتائجه ومن هزات اخرى حدثت في الشرق الاوسط في السنوات الاخيرة. يبدو ايضا أن هذا الجيل حذر من تكرار اخطاء الآخرين وهو يفحص طريقه وفقا لذلك. شاؤول مشعل ودورون ماتسا زعما في هذا الشأن أن “الجيل الفلسطيني من مواليد ما بعد اتفاق اوسلو في 1993 يردد صدى المقاومة التي تميز شباب الربيع العربي، ومصادرها الاجتماعية، والثقافية والطبقية”. عيدو زلبوفيتش يعتقد أن “هذا جيل لم يعد يسير بأعين مغمضة وراء القيادة السياسية وأطر حزبية قائمة. فهو يريد أخذ مصيره بأيديه ويريد رؤية تغيير وضعه هنا والآن”.

امثلة على الضائقة واليأس الذي يعبر عنه الجيل الجديد في القطاع يمكن ايجادها ايضا في قصص الشباب الذين يحاولون مؤخرا الهرب الى اسرائيل، ويتم القاء القبض عليهم تقريبا في كل ليلة على أيدي قوات الجيش الاسرائيلي على طول الحدود. لهؤلاء الشباب توجد على الاغلب خلفية مشابهة: هم في نهاية العقد الثاني من اعمارهم، عدد كبير منهم يأتي من شريحة اللاجئين في القطاع وتسربوا من المدارس في جيل صغير، وجميعهم تقريبا يتحدثون عن ضائقة اقتصادية كبيرة وعلاقة واهية مع ابناء عائلاتهم. كل ذلك يجعلهم يبحثون عن “حياة اخرى”، حتى بثمن المخاطرة التي تكمن في اجتياز الحدود. شهادات اولئك الشبان تظهر أنهم يفضلون المكوث في السجن الاسرائيلي – المقترن بوجبات ثابتة وتمويل لابناء عائلاتهم – على البطالة والحياة البائسة في قطاع غزة.

في حماس يدركون الاخطار الكامنة في مراكز المعارضة المحتملة هذه، في الجهات التي يمكن أن تهدد مستقبلا حكمها في قطاع غزة. حماس تستثمر الكثير من الموارد في الجيل الجديد (بواسطة معسكرات شبابية ومخيمات صيفية وغيرها) من اجل تجنيده لصالحها. حماس ايضا تحاول توجيه غضب هذا الجيل نحو اسرائيل، وأن تعرض نفسها كمن لا يستطيع تغيير الوضع بسبب السياسة الاسرائيلية. وهي ايضا تؤجج هذا الادعاء عن طريق جهاز التعليم وتخلق من خلاله ثقافة كراهية لاسرائيل. ونتيجة لذلك، فان محاولات التغيير وتحقيق التطبيع في القطاع بدعم اسرائيلي ودولي استقبلت بمعارضة السلطات في غزة. يبدو أن نموذج السلوك هذا هو جزء من العامل الوراثي لحماس – التي الى جانب كونها الجهة الحاكمة في القطاع فهي تواصل تبني صفات المنظمة السرية المتآمرة.

ولكن المحاولات المتكررة لحماس لصد استثمار احتجاج الجيل الجديد في القطاع تدل في الاساس على قوة كامنة في هذا الجيل. من ناحية الجيل لن يكون هناك اسوأ مما هو قائم، وليس لديه ما يخسره. ووضع كهذا يشكل ارض خصبة لرؤية حتمية تقسم العالم الى “أخيار وأشرار”، ويشجع النضال العنيف كأساس للتغيير. في الحقيقة يمكن الادعاء بأنه بهذا الشكل تصرفت دائما جماعات سكانية تبنت خط عمل متشدد، لكن في حالة الجيل الجديد يبدو أن الامر يتعلق بامكانية كامنة لواقع عنيف أكثر خطورة من الذي عرفناه في السابق.

          مسار التطرف: الطريق المغلق لقطاع غزة

الجيل الجديد في القطاع يريد جدا تغيير الواقع، لكن السؤال المطروح هو اذا حدث التغيير فماذا سيكون نوعه؟ نشدد على أن سلطة حماس في القطاع عرفت في السابق معارضة وتهديدات من قبل تنظيمات منشقة كهذه أو تلك، وفي اغلب الحالات وجهتها الى اماكن مريحة لها، وعززت بذلك سيطرتها. ولكن الجيل الجديد ليس منظمة مارقة، ولفترة طويلة سيشكل تهديدا على الحكم وسيشكل القطاع على صورته – مع أو بدون حماس. لقد كتب الكثير عن التطرف المتزايد في اوساط سكان قطاع غزة مع مرور السنين، والواقع الذي يرونه من وجهة نظرهم لا يتغير، بل يتحول الى واقع اصعب واكثر احباطا. في نفس الوقت، يبرز في اوساط الشباب ميل لرؤية العنف كحل يؤدي الى تغيير الوضع، حتى اذا لم يكن في ذلك ضمانة لحياة افضل من جهتهم. وعندما لا يكون هناك من يهتم بهم، فان كل وسيلة تكون مباحة بالنسبة لمن يرى نفسه ضحية الواقع، والجيل الجديد في القطاع يرى نفسه حقا هكذا.

هنا يمكننا الاشارة بالحذر المطلوب، الى زاوية تفكير اخرى حول امكانية سيطرة جهة جديدة على قطاع غزة في الوقت الحالي عن طريق مفهوم “مسار التطرف” – الذي يصف عملية دائمة لزيادة العوامل الموجهة لطرق التشدد وانعدام الامل (حسب وجهة نظر سكان القطاع)، التي ميزت الجهات التي حكمت القطاع، بالاساس البدائل التي جاءت من العام 1977. مسار التطرف هذا يثير التساؤلات ويضع علامات استفهام بخصوص مستقبل ومصير قطاع غزة، حيث أنه خلال هذه السنين، البديل الذي وجد للجهة الحاكمة (مصر، اسرائيل والسلطة الفلسطينية) أخذ على مسؤوليته في نهاية الامر السيطرة على القطاع، لكنه لم يحل المشكلات التي ورثها، بل زاد حدتها. بدون الدخول الى المصلحة الاسرائيلية بخصوص شخصية الجهة الحاكمة في القطاع في الوضع الراهن، فان مسار التطرف الموصوف هنا يبرهن على أنه اذا لم يتم القيام بشيء يؤدي الى التغيير الحقيقي في الوضع المتدهور (بعيون غزية) – فاننا سنواجه وضعا فيه اوساط أكثر تطرفا حتى بالمقارنة مع حماس، ستحتل مستقبلا السلطة في القطاع.

كما قلنا، الجيل الجديد في قطاع غزة لم يتبلور بعد، أو يرتبط باطار يمكنه من تشكيل بديل للحكم (من المهم أن نذكر أن الحركات القائمة ايضا مثل الجهاد الاسلامي وحتى السلطة الفلسطينية لا يتم اعتبارها الآن أنها تستطيع القيام بثورة). مع ذلك، نشير الى أن اغلبية تغييرات السلطة في القطاع حدثت في السابق بصورة مفاجئة نسبيا – بدون ان يكون بالامكان تقدير مداها مسبقا وكذلك معناها. ايضا التوقيت الذي يتحول فيه الجيل الجديد في القطاع الى بديل للحكم لا يمكن التنبؤ به في الوقت الحالي. ويجب أن تحدث امور اخرى من اجل أن ينشأ تهديد حقيقي على حكم حماس. ولكن، يمكن القول إنه بالتأكيد يوجد لهذا الجيل الامكانية الكامنة للتحول الى “الشيء القادم” في القطاع، بكل ما يعنيه ذلك.

          الخلاصة

الادعاء الاساسي الذي طرح في هذا المقال في محاولة لتحليل الواقع الحالي، هو أنه في حين أن حكم حماس يفقد قوته بسبب مسؤوليته عن حجم الفقر والبطالة في قطاع غزة، يعتبر الجيل الجديد صاحب التأثير المتزايد، وتوجد له امكانية كامنة للتأثير على شخصية الجهة الحاكمة المستقبلية في القطاع. في الوقت الحالي على الاقل، الحديث لا يدور عن بشرى حقيقية لسكان القطاع، وبيقين ليس لدولة اسرائيل. امكانية الخطأ الكامنة في الجيل الجديد تنبع في الاساس من ضمن امور اخرى، من الادعاء بأن القطاع يسير منذ عشرات السنين في مسار التطرف. ورغم التغييرات التي حدثت على شخصية الجهة الحاكمة فيه، لم يتم تقديم حلول حقيقية لاحتياجات السكان، بل وضعهم ازداد سوء، لذلك شجع وجهات نظر اكثر تطرفا في اوساط الجهات المعارضة للحكم. هذا يعني أنه اذا لم يتم القيام بأي شيء لتغيير مسار التطرف الذي تم وصفه هنا، فان قطاع غزة من شأنه أن يجد نفسه، عاجلا أو آجلا، تحت سيطرة جهة اكثر تطرفا، ستسعى الى توجيه غضب وطاقة الجيل الجديد نحو تنفيذ انقلاب آخر ضد نظام الحكم.

صحيح حتى الآن أن الجيل الجديد في قطاع غزة منشغل في الاساس في رغبته بالبقاء والخروج من الضائقة الاقتصادية التي يعيش فيها، وتحركه بصورة أقل المصالح السياسية. هذا الادعاء يستند ايضا الى ما يسمى “العلاقة الوثيقة” بين الوضع الاجتماعي – الاقتصادي وبين الوضع الامني، حيث أن التفكير الاسرائيلي بالقطاع يرتكز في الوقت الحالي على ضائقة المليوني فلسطيني الذين يعيشون في تلك الغرفة المكتظة، ويقترن بفهم أنه يوجد لوضعهم الاقتصادي هذا تداعيات مباشرة ودراماتيكية على الوضع الامني في المنطقة. نتيجة ذلك، فان نقطة الانطلاق لهذا المقال هي أنه كلما زاد وضع السكان في غزة سوء فاننا بهذا نزيد احتمال الدخول الى جولات عنف اخرى في هذا المجال مستقبلا.

على خلفية ذلك يبدو أن اتجاهات الحل الضرورية في الوقت الحالي لقطاع غزة يجب أن تشمل بشرى حقيقية للسكان الذين يعيشون فيه. معنى الامر هو أنه يجب القيام بتحويل القطاع الى بيئة متطورة توجد فيها مناطق صناعية متقدمة وفضاءات سياحية وخطوط مواصلات حديثة وبنى تحتية تلبي احتياجات السكان. من اجل البرهنة ورغم التعقيد الاستراتيجي والسياسي الذي يكمن في التطوير المستقبلي، نود طرح أن عملية كهذه سيشكل نوعا من “خطة مارشال” لقطاع غزة. والقصد هو أن تشمل هذه الخطة مبادرات واستثمارات دولية جدية تمكن من أن تحدث في القطاع اعادة تأهيل وتغيير حقيقي في مجال الاقتصاد والوعي معا، دون أن تتمكن حماس من المعارضة أو منع ذلك. اضافة الى ذلك، عملية كهذه يجب أن تكون مرتبطة بتسوية امنية واقتصادية وحل مواضيع اخرى توجد على الاجندة، ومبدأ تقييد القوة العسكرية لسلطة حماس وانهاء اشتراط اعادة الاسرى والمخطوفين والجثامين من “الجرف الصامد”. أي أن الطموح هو ايجاد معادلة لا يمكن للاطراف المشاركة معارضتها، ويكون من الاصح من ناحيتهم تبنيها بأذرع مفتوحة (من المهم الاشارة الى أنه مؤخرا تتطور احتمالية لخلق تسوية في القطاع بقيادة مصر، التي تعزز من جهة علاقتها مع حماس وتحاول من جهة اخرى تحقيق مصالحة فلسطينية داخلية – تكون مقرونة بدفع السلطة الى تثبيت تأثيرها في القطاع).

صحيح أن من سيتمتع كما يبدو من تطوير جدي في قطاع غزة هو سلطة حماس قبل أي جهة اخرى (الامر الذي من شأنه التصعيب على اقامة حكم جديد)، لكن من المعقول أنه في واقع تغيير حقيقي في القطاع، ايضا حماس سيطلب منها التصرف حسب شروط واضحة من قبل جهات دولية. في المقابل، سيتم طرح معضلة بخصوص الحاجة الى قيادة عملية كهذه من خلال اشراك السلطة الفلسطينية. الحديث يدور هنا عن مسألة اساسية يجب بحثها في القنوات السياسية، حيث أن أحد التداعيات المحتملة هو أن السلطة ستشترط تأييدها لهذه العملية بنشرها في الضفة الغربية الواقعة تحت مسؤوليتها. أخيرا، العملية التي يمكنها تحويل قطاع غزة الى فضاء متطور معقدة في اساسها، لكنها ليست مستحيلة. صحيح أنه حتى الآن أن ما ينقصنا من اجل تحقيق هذه العملية هو النوايا الحسنة لذوي المصالح في هذا المجال، ومنهم سكان القطاع انفسهم. الحديث يدور عن عملية مركبة يتوقع أن تستمر لفترة طويلة، وبناء الثقة بها يقتضي صبر معين والاستمرار في اوساط الجهات المشاركة. اضافة الى ذلك، كل اقتراح لتغيير الوضع الحالي في القطاع يحتاج الى أن يأخذ في الحسبان الجيل الجديد، سواء بسبب قوته الكامنة والمتزايدة، أو بسبب أنه في غياب حل للوضع الراهن فمن المحتمل أن يندمج في التنظيمات المتطرفة وأن يتبنى بواسطتها خطا اكثر تشددا حتى مقارنة مع حكم حماس.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى