مقالات وآراء

سوريا وقمّة الجزائر: دمشق ليست مستعجلة

“إنّ الأولويّة بالنسبة إلينا في سوريا تنصبّ على تعزيز العلاقات العربيّة – العربيّة وتوحيد الصف العربي، ونحن ندعم جهود

الجزائر في هذا الإطار. إنّ بلادي تفضّل عدم طرح موضوع استئناف شغل مقعدها في الجامعة العربية خلال قمة نوفمبر،

حرصاً منها على المساهمة في توحيد الكلمة والصف العربيّ في مواجهة التحديات التي تفرضها الأوضاع الراهنة على

الصعيدين الإقليميّ والدّوليّ”.

هذا ما نقله وزير الخارجية الجزائريّ رمطان العمامرة عن رأس الدبلوماسيّة السوريّة الدكتور فيصل المقداد، بعد اتّصال هاتفيّ

جرى بينهما قبل أيام، لتحسم دمشق النقاش الذي دفعه “عرب واشنطن” نحو لغة الصراخ والشتائم ومفردات الكراهية

والعداء والتفرقة بأمرٍ أميركيّ مباشر وصارم.

إذاً، قررت دمشق “رفع الحرج” عن شقيقتها الجزائر في موضوع مشاركتها في القمة العربية المقبلة، استشعاراً منها بأنّ

الجزائر نفسها مستهدفة في هذه الحملة المسعورة، بعد إصرار الأخيرة على لمّ الشمل العربيّ وإعادة الحقّ السوريّ

لأصحابه، واستغلال فرصة انعقاد القمة العربية المقبلة في تشرين الثاني/نوفمبر في عاصمتها للقيام بدورها كدولةٍ لها

تاريخها النضاليّ المشرّف على المستوى القوميّ العربيّ والتحرّريّ الدوليّ.

وكما كان الموقف الجزائريّ الساعي لترقيع ندوب الوجه العربيّ متوقّعاً من قادة وشعب بلد المليون شهيدٍ وأكثر، فقد كان

هذا الموقف السوريّ، بكلّ ما استبطنه من هدوء ومسؤوليّة عالية، متوقّعاً أيضاً لدى العديد من المتابعين والعارفين بطريقة

عمل الدبلوماسية السوريّة، بعد تجربة طويلة حرصت فيها دمشق في أصعب الظروف على الثبات في موقعها في الصفّ

العربيّ الأول المدافع عن قضايا الأمة وشعوبها، والمترفّع عن الخوض في سجالات مع أدوات الولايات المتحدة الأميركية في

المنطقة العربية، والتي تهدف إلى ضرب العرب بعضهم ببعض وزيادة فرقتهم وتشتّتهم لمصلحة القوى الاستعمارية والمحتلة،

وخصوصاً أيضاً بعد تجربة سياسية ودبلوماسية سوريّة مشهودة ونادرة، لجهة قدرتها على الصمود والنجاة خلال عشريّةِ نارٍ

أرادت منها قوى الهيمنة في العالم، وثلاثة أرباع أنظمة العرب التي تجتمع تحت مظلة “الجامعة العربية”، أنْ تحرق سوريا

من شمالها إلى جنوبها، ولا تبقي منها سوى الرماد.

لهذا وغيره كثير، يكون أمر عودة المندوب السوري للجلوس وسط العديد من هؤلاء العرب الذين لا يملكون من أمرهم شيئاً

حدثاً لا يُغري بالتحدّي ولا بالآمال العظيمة بالنسبة إلى دمشق الآن، بل هو أمر “ملحوق”، ويمكنه أنْ ينتظر إلى الوقت المناسب.

في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2011، اتّخذت الجامعة العربيّة قراراً بتعليق عضوية سوريا في الجامعة العربيّة بموافقة 18

دولة من الدول الأعضاء، واعتراض 3 دول هي سوريا واليمن ولبنان، وامتناع العراق عن التصويت.

صحيح أنّ الجزائر لم تسجّل اعتراضاً رسميّاً في ذلك الحين، إلّا أنّ تسريبات نقاشات تلك الجلسة المشهودة نقلت تهديداً

قطريّاً مباشراً للمندوب الجزائري، بعد كلمةٍ للأخير يعترض فيها على هذا القرار، إذ توجه وزير الخارجية القطريّ آنذاك، حمد

بن جاسم بن جبر آل ثاني، إلى المندوب الجزائريّ بالقول: “إنّ دوركم آتٍ”.

وكما كان لقطر دور رئيسيّ في تمرير القرار الأميركيّ ضد دمشق عام 2011، وقيادة مسألة محاصرة سوريا وتدميرها مع

دول عربية أخرى، فقد جاء الدور القطري في وجه المساعي الجزائرية الأخيرة لعودة دمشق إلى الجامعة العربية متمّماً

لِما بدأه الأميركي في ذلك الحين، إذ قادت الدوحة، سياسيّاً وإعلاميّاً، الحملة العنيفة ضد الجزائر وجهودها في هذا الشأن،

وذلك بعد قرار أميركيّ واضح وصريح بمنع إعادة سوريا إلى الجامعة، والذي أعلن من خلال اجتماعات أجراها الأميركيون

الأسبوع الماضي في مدينة “جنيف” السويسرية مع مندوبين من دول عربية، أبرزها قطر والأردن ومصر والسعودية، إضافة

إلى شخصيات من المعارضة السورية وممثل عن تركيا وممثلين عن دول الاتحاد الأوروبي، أبلغت فيها واشنطن هؤلاء

برفضها القاطع عودة سوريا إلى الجامعة، وبضرورة الضغط في هذا الاتجاه، حتى لو تطلب الأمر إلغاء القمّة أو نقلها من

الجزائر إلى دولة عربية أخرى تخضع لأوامر واشنطن.

كما أبلغ الأميركيون أدواتهم العربية والدولية بوجوب عرقلة كل المساعي الروسية والإيرانية التي تهدف إلى إحداث تسويات

ومصالحات في المنطقة وإفشالها، وخصوصاً بعد نجاح ثلاثي قمّة طهران الأخيرة في التوصّل إلى تفاهمات أفضت إلى

ترتيبات جديدة في الميدان السوريّ، ودفع أنقرة نحو مسار سياسيّ جديد بعيد عن مسار التهديد والتصعيد الذي كان

إردوغان قد اعتمده في الأشهر والأسابيع التي سبقت قمة طهران.

وفي هذا السياق، طرحت واشنطن خطّة لتوسيع وتفعيل دور “المجلس الوطنيّ الكرديّ” المنضوي في صفوف المعارضة

السورية التي تحتضنها أنقرة وتقويته في منطقة “الإدارة الذاتية الكردية”، بهدف طمأنة أنقرة وإبعادها عن المسار التسوويّ

التصالحيّ مع دمشق، والذي تعمل عليه موسكو وطهران. وقد حقّقتا فيه نجاحات ملموسة في الآونة الأخيرة.

وعرض الأميركيون في هذا السياق زيادة الدعم التنمويّ والاستثماريّ للكرد في الشرق السوريّ، مع زيادة الدعم العسكريّ

والحماية السياسية بالطبع. كما أبلغت واشنطن مندوبي الدول والكيانات التي حضرت اجتماع “جنيف” بوجوب التوقف عن

خطوات التقارب مع دمشق، وضرورة الإبقاء على الحصار السياسيّ والاقتصادي الذي تمارسه تلك الدول على سوريا.

وتسعى واشنطن من خلال تلك الخطوات، ومن خلال محاولات التصعيد التي تعمل عليها في الميدان السوريّ، وخصوصاً

في الشرق والشمال، وأيضاً من خلال دفعها كيان الاحتلال الإسرائيليّ المؤقت إلى تكثيف اعتداءاته على الأرض السوريّة،

إلى حصار دمشق وخنقها أكثر، لعلّها تقدّم تنازلات معيّنة، ومحاولة قلب الطاولة في وجه موسكو ودمشق وطهران، وإعادة

خلط الأوراق في الميدان السوريّ وفي المنطقة، ومنع روسيا على وجه الخصوص من تحقيق أيّ نجاحات سياسية وعسكرية

في سوريا والمنطقة، وذلك في سياق الصراع العالميّ الذي تقوده واشنطن ضد موسكو، والذي تُعتبر سوريا أحد ميادينه،

وخصوصاً أنّ دمشق كانت من أولى العواصم التي حدّدت موقفها الواضح من هذا الصراع يوم بدأت الحرب في أوكرانيا، ومؤخّراً

حين أعلنت أنّ جنيف لم تعد مدينة صالحة لعقد اجتماعات “اللجنة الدستوريّة”، لأنّ سويسرا لم تعد دولة محايدة، وذلك بعد

انضمام الأخيرة إلى الركب الأميركيّ وقرارها فرض عقوبات على روسيا.

صحيح أنّ الدور القطري ليس مفاجئاً لأحد، إذ أعلنت الدوحة مراراً معارضتها عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربيّة،

وعبّرت دائماً عن عدائها لدمشق في السنوات الأخيرة، لكنّ الانصياع المصريّ للأمر الأميركي من دون نقاش يذكر هو ما

يستحق الإشارة إليه، إذ إنّه يُدلّل على ضعف إرادة القاهرة وهزالة دورها العربيّ في هذه المرحلة المهمة جدّاً من تاريخ

الأمة، فقد اتخذت مصر في السنوات الأخيرة عدّة خطوات فُهِم منها وجود رغبة لدى القيادة المصرية للقيام بدور مؤثّر وإيجابيّ

باتّجاه التقارب مع سوريا والدفع نحو عودة العرب إليها، والسعي إلى تقديم اقتراحات ومبادرات من شأنها تذليل بعض الصعاب

والمعوقات على طريق الحلول السياسية في المسألة السوريّة وعلاقة دمشق بالدول العربية، لكنْ يبدو أنّ القاهرة لا تزال

ترى أنّ جميع خيوط الصراعات في الشرق الأوسط والعالم في يد واشنطن، وهو أمر لم تعد واشنطن ذاتها تؤمن به أو حتى

تروّج له.

واللافت هنا أيضاً هو موقف المملكة العربية السعودية الذي لا يختلف كثيراً عن موقف القاهرة، فكلّما تقدّمت الرياض خطوة

باتّجاه دمشق أو موسكو أو طهران، لما ترى فيه مصلحتها الذاتيّة ومصلحة استقرارها واستقرار المنطقة، دفعتها واشنطن،

بكلمة واحدة، خطوتين أو ثلاثة إلى الخلف، وهذا هو لبّ القضيّة كلها في نظر دمشق في الحقيقة على صعيد العلاقات مع

الدول العربية.

ترى دمشق أنّ الأولويّة بالنسبة إليها هي تحرير الأرض السورية حتى آخر شبر منها، واستعادة سيطرة الدولة على أراضيها

وثرواتها، وهو ما يجري العمل عليه على مدار الوقت هذه الأيام، إذ لا تكاد تمرّ عدة أيام قليلة من دون سقوط صواريخ وقذائف

على قواعد الاحتلال الأميركيّ في الشرق السوريّ، مع وجود نيّة واضحة ومقرونة بالعمل لدى دمشق وقوى محور المقاومة

بتصعيد تلك الهجمات حتى إخراج قوات الاحتلال من الشرق.

من هنا تبدأ كل الحلول في نظر السوريين، ومنها موضوع عودة العرب إلى سوريا أو عودتها إليهم، إذ تعرف دمشق أنّ

معظم العواصم العربية بلا إرادة سياسية، وأنّ أيّ تفصيل صغير أو كبير يخصّ علاقتهم بها، يجب أن ينال رضا الأميركيّ

وموافقته.

ومن هنا، دمشق ليست مستعجلة (ولم تُبدِ أيّ استعجال في أيّ مرحلة من مراحل الحرب عليها) للدخول في علاقات

مبتورة أو مشروطة مع أيّ طرف عربي يأتمر بأمر واشنطن، وهي تؤمن بأنّ حاجة العرب لها توازي حاجتها إليهم، وربما

تزيد عليها.

وقد أثبتت الأحداث صواب نظرتها تلك في أكثر من مفصل مهم خلال السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد تقدّم أطراف عربية

عديدة باتجاه دمشق، وإبداء رغبتهم الواضحة في تسوية العلاقات معها، لولا أنّ الأميركي أمرهم بالتوقف عن ذلك.

والمُنتظر هنا، بل المتوقّع، أنّ خروج قوات الاحتلال الأميركي مدحورة من سوريا، وحاجة تركيا الماسّة إلى التدحرج باتّجاه

التصالح مع دمشق وفق شروط سورية مُرضية، ووفق مصالح تركيا ذاتها، سيفتح آفاقاً جديدة وملحّة أمام الدول مسلوبة

الإرادة في المنطقة، لتجد نفسها أمام مصالحها مع دمشق بشكل مباشر، وهو أمر نرى أنه لم يعد بعيداً.

وحتى ذلك الحين، فإنّ دمشق التي لم تجبرها حتى ويلات الحرب والدمار والحصار على التصرّف بما لا يليق بموقعها العربي

المتقدّم والمسؤول، انطلقت من قلب تلك المكانة الكبيرة في النقاش مع الجزائر، وعرفت كيف تحفظ لها جميل صنائعها

ومواقفها معها طوال فترة الحرب، كما في هذه المرحلة، حين أعفت الإخوة الجزائريين من هذا الحرج، لأنها أدركت أنّ “أعراب

واشنطن” يستهدفون الجزائر بقدر ما يستهدفون دمشق، وأنّ عليها تفويت هذه الفرصة عليهم، وانتظار اللحظة المنشودة

التي قد تكون فيها الجزائر ذاتها واسطة هؤلاء للعودة إلى دمشق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى