بلفور والتقسيم … رحلة الدم والبطولة
د. محمد البحيصي – رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية – الإيرانية
ثقيلة على الفلسطيني تلك السنين العجاف التي عصفت به أحداثها، وقد أحاط به هذا العالم الظالم الأصّم الأبكم، منذ أن تسربت إلى أرضه كل ذئاب وحيّات وعقارب مخلفات الحروب الصليبية، وطقوس القتل المزروعة في أرض الخرافة.. خرافة الأرض الموعودة، وخرافة شعب الله المختار.. وبين هذه الخرافة وتلك، ازدحمت الشياطين في حفلة الرقص على الضحيّة قبل الانقضاض عليها، ولم تعدم هذه الشياطين العثور على مزيد من المنافقين من أبناء هذه البلاد، رضوا بأن يكونوا من خدم الشيطان الذي وعدهم ومنّاهم بممالك وسلطنات، وشقّت المؤامرة طريقها في الجسد الفلسطيني، والغفلة والانقسام وقلّة الحيلة، والسكوت، والتواطؤ، والمقاومة كانت خليط الفعل الفلسطيني في مرحلة لا تقبل غير الوعي والإيمان والمقاومة، فكان ذلك المزيج الغريب الشاذ من الانفعال لا الفعل، مصيبة أخرى أُضيفت إلى مصائب مواقف الخونة من الأعراب، وكلّها اجتمعت في الكأس الذي تجرّعه الفلسطيني ليجد نفسه في صحراء المنافي التي لا تعرف الرّحمة..
ومرّ وقت قبل أن يفيق ذلك المنفي ويتعرّف على واقعه الجديد، وعلى ما جرى، وما العمل إزاء كل ذلك..
وكانت الإجابة هي ثورة المنافي.. ثورة المخيمات التي كانت بمثابة الاعتذار، عمّا وقع في حقبة الاقتلاع من الأرض من أخطاء، واستعادة الهويّة الوطنيّة التي توزّعت في أركان الأرض الأربعة، وتوسيع جبهة المواجهة مع المشروع الصهيوني لتشمل دوائر فلسطين والأمتين العربية والإسلامية وأحرار العالم، كان هذا ما يجب أن تحققه الثورة في عالمٍ تحكمه شريعة القوة وقانون الغلبة، وكانت هناك فرصة حقيقية لإنجاز هذا المشروع التحرّري، باعتباره مشروع الأمة لا مشروع الشعب الفلسطيني وحده.. ولكنّ شيئاً من هذا لم يتحقق، وإنما كان هناك فعل عشوائي يحوم حول هذه الخطوط دون أن يلتحم بها، ودون قدرة على رفع البنيان الثوري وفق المداميك التي يحتاجها، من مكونات الدين والتاريخ والواقع والبصيرة، في فهم وظائف هذه الثلاث في حياة الأمم المتطلّعة إلى الانعتاق والحرية.
سايكس بيكو وبلفور وتقسيم فلسطين وتهجير الشعب الفلسطيني، حلقات متتالية في سياق الرؤية (الأنجلوسكسونية) للصراع مع الأمة، كانت فلسطين وستبقى قلب هذه الرؤية التي تستهدف تمزيق الأمة، وإلحاقها فرادى وتوظيفها كأدوات لخدمة هذا المشروع، والمصيبة أننا استسلمنا لهذا المشروع وكأنه قدر حتمي، وبتنا في أغلبنا نعمل بالسخرة لدى أصحابه، ونتصارع فيما بيننا ويفني بعضنا بعضاً في سبيل ترسيم حدوده وعلاقاته، جهلاً تارةً وخيانة أخرى، وعدو الأمة المتربّص يضحك ملء شدقيه ولسان حاله يقول: “يا أمّةٌ ضحكت من جهلها الأمم”..
وحين يأتي من يدق الأبواب على النائمين ليوقظهم وعلى الغافلين لينبههم، يقوم هؤلاء فزعين لائمين غاضبين قائلين: “يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا”..
إنّ قدر الأحرار في هذه الأمة أن يقاوموا هذه الهجمة، بمزيد من الإيمان والوعي والصدق والعمل، ليكسروا حاجز الجهل والعجز الذي يحاصر المستسلمين المهزومين، وعلى صخرة جهادهم ستنكسر حتماً زحوف هذه الهجمة، بكل عناوينها وأدواتها.