فلسطين الجغرافيا والتاريخ

الناصرة .. مدينة المسيح في عهدة صلاح الدين

مدينة عربية ومركز قضاء يحمل اسمها. وهي واحدة من أكبر وأجمل مدن فلسطين، ولها مكانة خاصة في نفوس المسيحين في مختلف أنحاء العالم. فهم يحجون إليها كما يحجون إلى كنيسة القيامة في القدس* وكنيسة المهد في بيت لحم*. وقد نسب السيد المسيح إليها فدعي بالناصري وعرف أتباعه بالمسيحين تارة والنصارى تارة أخرى. واذا كانت صفد* عاصمة الجليل الأعلى فان الناصرة عاصمة الجليل الأدنى. وهي قاعدة لقضاء الناصرة منذ أواخر العهد العثماني. وقد تعرضت الناصرة للاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1948 فهاجر عدد قليل من سكانها نتيجة لذلك، وصمد أكثرهم رغم قسوة الاحتلال واهماله شؤون المدينة. وظلت المدينة على حالها دون تطور رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً على الاحتلال فتراجعت المشروعات فيها وحدث عجز متصاعد في موازنة بلديتها. ولم تتعرض الناصر العربية للتخلف والاهمال فحسب بل أخذت تعاني الاختناق والتسلط على يد سلطات الاحتلال التي أنشأت مدينة “تزاريت عليت” أي الناصرة العليا، على مرتفع جبلي بالقرب منها للتحكم في رقاب سكانها.

الموقع الجغرافي: تقع الناصرة في قلب الجليل الأدنى وتطل على سهل مرج ابن عامر* من الشمال. ودلت الحفريات الأثرية على أن الناصرة كانت مسكونة في العصر البرونزي المتوسط وفي العهد الحديدي. وقد وجدت فيها قبور أثرية منقورة في الصخور أو في الكهوف (رَ: العصور القديمة).

ويبدو أن المدينة لم تكن ذات شأن في العصور القديمة السابقة للميلاد. فلم يرد لها ذكر في العهد القديم أو في أي مصدر من المصادر الأدبية السابقة للانجيل الذي ورد فيه اسم المدينة 28 مرة.

وفي القرن الثاني بعد الميلاد ازداد الوجود اليهودي في المدينة وفي منطقة الجليل كلها بعد أن دمر هادريالوس* امبراطور روما مدينة القدس وطرد اليهود

مدينة المسيح: استمدت الناصرة مكانتها في التاريخ لأنها مدينة السيد المسيح ومريم العذراء*. ففي الناصرة استوطنت مريم العذراء ويوسف النجار، وفيها بشر جبريل الخاصة قبل الميلاد، كما ورد في الانجيل – بميلاد السيد المسيح، وفيها قضى المسيح 30 سنة من عمره، وفيها حاول اليهود من سكانها طرحه من جبل القفزة للتخلص منه (رَ: المسيحية). وقد منع اليهود المسيحين من الدخول إلى الناصرة في القرنين الثاني والثالث. ومنذ القرن الرابع بدأ تاريخ الناصرة يتحول بعد تنصر الامبراطور الروماني قسطنطين* 306-337م.

في عهد الأمويين والعباسيين: دخلت الناصرة في حوزة العرب المسلمين على يد شرحبيل بن حسنة* فاتح شمال فلسطين في السنة الثالثة عشرة للهجرة (634م). وكانت تابعة آنذاك لجند الأردن الذي كانت قاعدته طبرية. وفي سنة 104هـ/722م، أي في زمن الخليفة الأموي يزيد الثاني، زار السائح الانكليزي وليبلد الناصرة وذكر كنيسة البشارة. ويستدل من تقرير عن المعاهد الدينية المسيحية يرجع تاريخه إلى سنة 793هـ/808م (زمن هارون الرشيد) أنه كان في الناصرة دير فيه 12 راهباً، ودير آخر على جبل القفزة.

ويتحدث برنارد الحكيم عن جو الحرية الدينية في المدينة عند زيارته لها زمن العباسيين في سنة 869م فيقول:

“يوجد سلام تام بين المسيحين والمسلمين: ولو كنت مسافراً ومات جملي أو جملي الذي يحمل أمتعتي أترك كل شيء في مكانه بلا حارس وأذهب إلى أقرب مدينة فأستأجر دأبة وأعود فأجد عند رجوعي كل شيء كما تركته”.

في عهد الصليبيين: يظهر أن الناصرة حل بها خراب كبير في القرن الحادي عشر. فالمصادر تشير إلى أن الصليبيين وجدوا المدينة خراباً عندما احتلوها سنة 494هـ/1100م. وقد عمر تنكريد مدينة الناصرة وزينها وبنى فيها الكنائس بعد أن كان قد دخلها فاتحاً على رأس القوة الصليبية. ونقل الصليبيون أسقفية سكيتوبوليس (بيسان) إلى الناصرة فصارت مركزاً لها لأول مرة في تاريخها (رَ: الناصرة، كنائس).

وفي سنة 1140م انعقد فيها مجمع لفض الخلاف بين البابا فكتور الرابع والبابا اسكندر الثالث للذين كان كل منهما يدعي كرسي البابوية لنفسه.

وفي سنة 583هـ/1187م، أي بعد معركة حطين*، استولى مظفر الدين كوكوبوري أحد قادة صلاح الدين على مدينة الناصرة قسرا وملكها. وأظهر صلاح الدين – كما فعل في القدس وغيرها – عطفاً على أهل الناصرة ولم يمس كنائسها بأذى. وبموجب اتفاقية الصلح التي عقدها مع ريشارد ملك الانكليز سنة 587هـ/1196م بقيت الناصرة في عهدة صلاح الدين. غير أن الملك الكامل الأيوبي سلمها لفردريك الثاني امبراطور ألمانيا بعد عقد الصلح بينهما سنة 627هـ/1229م. وبقيت المدينة في حوزة الفرنجة* إلى أن استردها الخوارزمية* سنة 642هـ/1244م. ثم احتل الصليبيون الناصرة بقيادة لويس التاسع سنة 648هـ/1250م لفترة قصيرة، وزارها الملك لويس في سنة 649هـ/1251م.

وقد استوطن المسلمون المدينة بعد طرد الفرنجة. ولكن ظل الرهبان والحجاج المسيحيون يزورونها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وكانت المدينة لهذا الوقت قرية صغيرة من أعمال صفد.

في العهد العثماني: في سنة 923هـ/1517م دخلت الناصرة في حوزة العثمانيين. وبقول الرحالون الأوروبيون أنه لم يكن في الناصرة رهبان في أواسط القرن السادس عشر الميلادي. وكان عدد المسيحيين فيها لا يتجاوز بضع فئات. وفي سنة 1015هـ/1606م عقدت معاهدة بين السلطان أحمد الأول العثماني وهنري الرابع ملك فرنسا فوض الأخير بموجبها أن يقيم قناصل في المدن. وأخذت حالة الرهبان تتحسن. وفي سنة 1030هـ/1620م سلم الأمير فخر الدين بن قرقماز* المعني الثاني مغارة البشارة إلى الرهبان الفرنسيسكان. ومنذ ذلك الوقت أخذ المسيحيون يتوافدون إلى المدينة بأعداد متزايدة. وقد وفد إليها أولاً مسيحيون موازنة ثم مسيحيون من الروم الأرثوذكس. وكانت المدينة تتعرض في القرن السابع عشر باستمرار لهجمات الأعراب. وكان الحكام يتعرضون للرهبان أحياناً ويبعدونهم، ولكن هؤلاء كانوا يعودون دائماً.

وفي سنة 1143هـ/1730 م بنى اللاتين كنيسة في الناصرة. وكان جو التسامح الديني يسود المنطقة منذ عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني، ثم في عهد ظاهر العمر* الذي استولى على عكا سنة 1163هـ/1749م وجعلها عاصمة ملكه وأطلق الحرية الدينية ومد رواق الأمن ووسع التجارة. وقد كان له فضل كبير في عمران الناصرة. وبعد مقتل ظاهر العمر سنة 1190هـ/1776م تلاه أحمد باشا الجرار* الذي حكم البلاد حكم ارهاب.

وتميز القرن الثامن عشر بمشاحنات بين طائفتي الروم واللاتين خاصة. وفي أواخر هذا القرن قال الرحالة الفرنسي فوليني عن الناصرة: “سكانها ثلثهم مسلمون والثلثان مسيحيون. وللأباء الفرنسيسيين فيها نزل ومعابد، وهم غادة ملتزمز البلدة”.

في نيسان 1214هـ/1799م احتل نابليون الناصرة وزار المدينة ثم ما لبث أن انسحب منها بعد هزيمته عند أسوار عكا (رَ: الحملة الفرنسية).

وفي سنة 1242هـ/1826م رخص السلطان محمود العثماني لرهبان الفرنسيسكان بتحديد بعض المقامات وأقطعهم الناصرة وبعض القرى على أن يؤدوا خراجها للدولة.

وتحدث الرحالة بوكهارت عن الناصرة، وكان قد نزلها سنة 1227هـ/1812م، فقال: “يتمتع مسيحيو الناصرة بحرية كبيرة. فالرهبان يذهبون للصيد وحدهم حسب عوائدهم مسافة تبعد عن الدير عدة مسافات دون أن يتعرضوا لأية إهانة من المسلمين”.

وشهدت الناصرة والبلاد كلها عهداً من التسامح في فترة حكم ابراهيم باشا ابن محمد علي باشا المصري 1831-1841م وكان حكمه بداية عصر جديد من الإدارة الحديثة (رَ: الحكم المصري).

وفي القرن التاسع عشر بدأت الدولة العثمانية عصر التنظيمات وأخذت تحاول تحسين أوضاع الرعية فيها بصورة عامة. ومنذ بداية هذا القرن أخذت تعد إلى الناصرة أعداد متزايدة من الارساليات الأجنبية والتبشيرية وتقيم فيها منشآت مختلفة من كنائس وأديرة ومعاهدة تعليم لجميع الطوائف.

عانت الناصرة كما عانت سائر المدن الجبلية في فلسطين من زلزال عام 1837 م الذي دمر 424 بيتاً فيها وأعطب 373 بيتاً آخر وقتل من سكانها 126 فرداً (رَ: الزلازل).

وكانت الناصرة تقوم قبل الحرب العالمية الأولى على أربعة تلال يشكل مجموعها دائرة. ولم تكن المباني تغطي جميع هذه التلال*، بل كانت تتلاصق أحياناً وتتباعد مختفية بين تلك التلال أحياناً أخرى. وقد غطيت سفوح معظم مبانيها بالآجر الأحمر (القرميد) وأحاطت بها الأشجار المثمرة، ولا سيما أشجار الزيتون*. ولم يكن عدد مبانيها يتجاوز 1,500 بناء في ذلك الوقت، وكان نموها العمراني يمتد بخطى واسعة نحو الشرق والغرب.

قدر عدد سكان الناصرة في عام 1852 بنحو 3,000 نسمة، وقدر عددهم في عام 1881 بنحو 5,939 نسمة. وفي عام 1904 بلغ العدد 6,458 نسمة، ثم ارتفع إلى 7,988 في عام 1912، وإلى 8,584 ابان الحرب العالمية الأولى. وكان سكانها يعملون في الزراعة* والصناعة* والتجارة*.

وفي الحرب العالمية الأولى كانت الناصرة مقراً لقيادة الجيش الألماني-التركي.

في عهد الانتداب البريطاني: في أوائل عهد الانتداب البريطاني انخفض عدد سكان الناصرة قليلاً عما كان عليه في بداية الحرب العالمية. وقدر العدد بنحو 7,424 نسمة عام 1922. ويعزى هذا الانخفاض إلى أحداث الحرب والأمراض والمجاعات* التي أتت على عدد من السكان، بالاضافة إلى عامل الهجرة من الناصرة إلى خارج فلسطين. وفي تعداد عام 1931 ارتفع عدد سكان الناصرة إلى 8,756 نسمة يقيمون في 1,834 بيتاً داخل المدينة، علاوة على 138 نسمة كانوا يقيمون في 28 بيتاً بضواحي الناصرة.

شهدت الناصرة بعدئذ تطوراً ملموساً في سكانها وعمرانها فزاد عدد السكان وجميعهم من العرب، إلى 14,200 نسمة عام 1945. وكان عددهم في نهاية فترة الانتداب البريطاني نحو 17,000 نسمة. وقد أثرت الزيادة العددية للسكان في الزيادة العددية للمساكن والمنشآت والمرافق العامة. وظهر ذلك في النمو العمراني للمدينة وتوسعها وامتدادها فوق رقعة تجاوزت مساحتها 5,000 دونم. واتخذ هذا الاممتداد شكل المحاور على طول الطرق المتفرعة من الناصرة إلى المدن والقرى المجاورة. ولم يقتصر الأمر على عدد البيوت بل أصاب التطور نوعها وأساليب عمرانها، فبدت الناصرة بيضاء بيوتها الفخمة التي تضم التجهيزات العصرية، وبشوارعها النظيفة وحدائقها الغناء.

ساهمت بلدية الناصرة في تنظيم المدينة والاشراف على ادارتها وشؤونها منذ عام 1875 عندما تأسس أول مجلس بلدي في المدينة. ففي عام 1922 بلغ مجموع واردات البلدية نحو 4,308 جنيهات، والنفقات مثلها. وفي عام 1944 كانت وارداتها نحو 18,000 جنيه ونفقاتها نحو 17,000 جنيه. وقد أعطت البلدية عام 1935 وحده نحو 150 رخصة بناء بقيمة 17,000 جنيه.

في ظل الاحتلال الإسرائيلي: ظلت بلدية الناصرة تدير شؤون المدينة بعد عام 1948 رغم قسوة الاحتلال الإسرائيلي. فقد أقامت (إسرائيل) مدينة الناصرة العليا الصهيونية “نزاريت عليت” لتكون كماشة من الأبنية الحديثة على الجبال والهضاب المطلة على المدينة من جهتي الشرق والشمال. وتسكن هذه المدينة مجموعات من المستوطنين الصهيونيين خصصت لهم الأحياء الشرقية. وأما المنطقة الشمالية فقد خصصت لإقامة عائلات الجنود الصهيونيين المتزوجين.

بلغ مجموع سكان الناصرة العربية عام 1983 قرابة 41,700 نسمة وارتفع في عام 2001 حتى وصل إلى 62,200 نسمة. أما مجموع سكان الناصرة العليا الصهيونية فقد بلغ عام 1983 23,600 نسمة. ارتفع في عام 2001 ليصل إلى 44,800 نسمة. ولكن موازنة الأولى كانت 17 مليون ليرة إسرائيلية في حين كانت موازنة الثانية 30 مليون ليرة إسرائيلية، أي أن موازنة بلدية الناصرة العليا التي بلغ عدد سكانها ثلث عدد سكان الناصرة العربي تقريباً وصلت إلى ما يقرب ضعفي موزانة بلدية الناصرة العربية بل إلى أكثر من ذلك اذا أضيف إليها الدعم المقنع الذي تقدمه الحكومة باسم صندوق مشاريع التطوير. وبذلك تبلغ مخصصات الفرد الصهيوني من الخدمات البلدية في الناصرة العليا 5,000 ليرة في العام مقابل 1,500 ليرة للفرد العربي في الناصرة.

هـ- التركيب الوظيفي للناصرة : تتنوع الوظائف التي تمارسها الناصرة منذ الماضي بسبب مكانتها الدينية المرموقة وموقعها الجغرافي الهام. فقد جذبت إليها السكان لإقامة والاستيطان، وأخذ هؤلاء يمارسون حرفاً متنوعة تناسب ظروف مدينتهم.

الوظيفة الدينية: للناصرة أهمية دينية خاصة كما لغيرها من مدن فلسطين المقدسة كالقدس وبيت لحم والخليل. ففيها 24 كنيسة وديراً وعدد من المتاحف الدينية. وتضم كذلك بعض المساجد وأضرحة الشهداء والصالحين من المسلمين. وأبرز معالم المدينة الدينية التاريخية كنيسة البشارة التي تقوم على الموضع الذي بشرت فيه مريم بأنها ستلد المسيح. وتقع الكنيسة على مقربة من حافة الجبل المطل على مرج ابن عامر وكان اليهود قد حاولوا أن يلقوا بالسيد المسيح من فوقه إلى أسفل. وهناك كذلك كنيسة القديس يوسف التي أقيمت سكان بيت يوسف النجار وحانوته وكنيسة البلاطة أو مائدة المسيح، وكنيسة سيدة الرحمة، وكنيسة المجمع، وعين العذراء.

جذبت أهمية الناصرة المدينة أنظار العالم المسيحي فأخذ يؤمها آلاف الحجاج المسيحيين والسياح سنويا لزيارة البقاع المقدسة والتاريخية، الأمر الذي يبعث الحياة ويزيد من الحركة والنشاط فيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى