شؤون العدو

الفوضى في واشنطن تقتضي من إسرائيل أن تكون اكثر حذراً

بقلم: عاموس هرئيل – هآرتس 

هذا ما زال العرض الافضل في المدينة. لقد مرت تسعة اشهر تقريبا منذ أن ضرب اعصار دونالد ترامب واشنطن. واحيانا ظهر أن العالم بدأ يعتاد على وجبة الدراما اليومية. هجمة تغريدات في الصباح الباكر، تصفية حسابات متأخرة في تويتر زمن النوم واستقالة كل اسبوعين لموظف كبير في الادارة – يمكن بسهولة الادمان على الاثارة غير المتوقفة التي يزودنا بها اكثر رئيس غير عادي في تاريخ الولايات المتحدة. ولكن من قلب هذه الضجة يأتي مرة كل بضعة اسابيع تذكير بالاهمية الحقيقية لهذه الامور. وهذا كان شأن المقابلة التي اجراها في بداية هذا الاسبوع سناتور جمهوري هو بوب كوركر، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، مع صحيفة “نيويورك تايمز”. السناتور الذي أعلن نيته للاستقالة من الحياة السياسية في العام القادم، ازاح الستار وسمح للجمهور الامريكي بالقاء نظرة على ما يجري من خلف الكواليس، بين البيت الابيض وتلة الكابتول.

في تلك المقابلة وفي تصريح سابق لوسائل الاعلام طرح كوركر الادعاءات التالية: دونالد ترامب يدير الادارة وكأنها برنامج واقعي خاص به، هذا “المجرب”، حلف كبار المسؤولين – جون كيري وجيمس ماتيس ووزير الخارجية ريكس تلرسون – منشغل طوال الوقت في كبح الرئيس، الذي يمكن أن يدحرج كل الدولة الى الفوضى. فتصريحات ترامب في مجال السياسة الخارجية مقلقة ويمكن أن تؤدي بخفة الى اندلاع الحرب العالمية الثالثة.

كوركر حل بأقواله إن سناتورات جمهوريين كثيرين يعتقدون كما يعتقد، لكنهم لا يشعرون بأنهم احرار في التعبير عن آرائهم.

في الوقت الذي كان فيه ترامب منشغلا في اثارة وتحريض الرأي العام – ما اعتبر ترك مسبق مخطط له من قبل نائب الرئيس مايك تنيس الذي ترك مباراة كرة القدم بعد سجود اللاعبين احتجاجا على سماعهم النشيد الامريكي – كوركر اعطى تحذيرا شديدا من داخل التيار المركزي للجمهوريين. تصرف الرئيس، كما فهم من اقواله، يشكل خطرا واضحا وفوريا على السلام العالمي.

اسرائيل كانت وما زالت ساحة ثانوية بالنسبة للادارة الامريكية. كوركر وآخرون قلقون في الاساس من تبادل الاتهامات بين الرئيس ترامب ورئيس كوريا الشمالية، كيم جونغ أون. ولكن موظفين وضباط اسرائيليين، لهم علاقات مستمرة مع نظرائهم في واشنطن، يجدون صعوبة في اخفاء تذمرهم من الاجواء الغامضة والفوضى التي ما زالت تلف نشاطات الادارة. وظائف هامة جدا لم يتم اشغالها بعد، ويبدو انه في حالات كثيرة ينشغل الموظفون في الادارة في الحفاظ على بقائهم الشخصي، ويحاولون عبثا توقع التصريحات القادمة للرئيس – التي يجب عليهم رسم السياسة الامريكية من خلالها. في الخلفية يكمن الخوف المشترك لكبار القادة في اسرائيل وفي الولايات المتحدة، وهو أن المشكلة التي تميز كل اجراءات الادارة يتم استغلالها بصورة سيئة من قبل لاعبين منضبطين واكثر دقة في موسكو وبجين وطهران.

الواقع الامريكي غير المسؤول بكل المقاييس يقتضي من اسرائيل أن تكون اكثر حذرا. رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في خطابات ونقاشات من خلف الكواليس يضغط على ترامب للعمل على الغاء أو تعديل الاتفاق النووي بين الدول العظمى وايران. الاتفاق الذي وقع في فيينا في صيف 2015 مليء بالعيوب، لكن مشكوك فيه اذا كان نتنياهو (أو أي زعيم آخر) يستطيع توقع كيفية تصرف ترامب في حالة مواجهة مع الايرانيين.

في نفس الوقت، الآمال التي تسمع كل مرة في اليسار الاسرائيلي، أن الرئيس الامريكي سيقوم بحل النزاع مع الفلسطينيين مرة واحدة والى الأبد، من خلال تسوية مفروضة على الطرفين، تبدو مدحوضة. فالادارة حتى اليوم لم تظهر أي اشارة على طول النفس والتخطيط بعيد المدى والقدرة على التركيز، وهي الامور اللازمة لنجاح هذه الجهود في المكان الذي فشل فيه أسلاف ترامب.

المصالح الامريكية

الرئيس الامريكي روزفلت وصف السياسة الخارجية الامريكية كالحاجة الى “التحدث بلطف والامساك بعصا طويلة”. ترامب يتحدث كل الوقت، وعلى الاغلب بشكل فظ، لكنه لم يوضح حتى الآن ما هو طول العصا التي يمسك بها، واذا كان ينوي استخدامها. الحماسة التي استقبلت بها في اسرائيل ايضا الهجمات الصاروخية ضد القاعدة الجوية في سوريا و”القنبلة الاكبر” التي القيت في يوم ما في نيسان الماضي في افغانستان، تلاشت منذ زمن. الولايات المتحدة أخلت فعليا الساحة السورية لروسيا وايران اللتان تفعلان فيها كل ما يخطر ببالهما. الاختبارات الاساسية التي تشغل الادارة تنتظر، كما هو معروف، في كوريا الشمالية، وبمستوى ما في ايران، التي يتابع زعماؤها باهتمام كيفية تعامل الولايات المتحدة مع كوريا الشمالية.

لقد قام ترامب بارسال اشارات في الاسابيع الاخيرة حول نيته الاعلان عن أن اتفاق فيينا لا يخدم المصالح الامنية للولايات المتحدة. وحتى يوم الاحد القادم، 15 تشرين الاول، يتوقع أن يحول هذا الموقف الى موقف رسمي. في هذه الحالة، الرئيس يحول للكونغرس القرار بشأن العودة الى فرض عقوبات اقتصادية على ايران. ولكن التصريح الامريكي لا يلزم كما هو معروف الدول الاخرى – التي في معظمها اعلنت تمسكها بالاتفاق – وكذلك قدرة الادارة على تمرير عقوبات جديدة في الكونغرس، امر مشكوك فيه، بيقين بعد أن اختار ترامب التشاجر مع كوركر، الذي يوجد دور مركزي للجنته في هذه العملية.

في هذه الاثناء اعلن وزير الدفاع الامريكي بأن الحفاظ على الاتفاق هو مصلحة امريكية، ورئيس الاركان المشتركة، جوزيف دينفورد، أعلن أن ايران لا تقوم بخرق الاتفاق (بالمناسبة، هذا أمر مختلف فيه، لأن الوكالة الدولية للطاقة النووية امتنعت عمدا عن التشدد باجراء فحص للمنشآت النووية الايرانية، التي يمكن أن يتبين أنها اشكالية). نيدي شيرمان التي ركزت علاقة وزارة الخارجية الامريكية على توقيع الاتفاق النووي في عهد ادارة اوباما، قالت في هذا الاسبوع إن ترامب سيرتكب “خطأ كبيرا” اذا تخلى عن الاتفاق النووي. وحسب شيرمان، ترامب محق في تشخيصه بأن نشاطات ايران تشجع على عدم الاستقرار في الشرق الاوسط، لكنه يخطيء في قوله إن هذه النشاطات تعارض روح الاتفاق النووي. وحسب اقوالها فان تداعيات التخلي عن الاتفاق ستكون مدمرة لعلاقات الولايات المتحدة مع الاتحاد الاوروبي ومع الدول العظمى. وقد وجهت انتقادات كثيرة للادارة السابقة على الطريقة التي تمت فيها بلورة الاتفاق، من خلال تقديم تنازلات كثيرة لايران، لكن يبدو أنه سيكون من الخطأ تجاهل تحذيراتها.

في اسرائيل ايضا يمكن تشخيص الفجوة بين موقف المستوى السياسي والمستوى المهني حول ايران، على الرغم من أنه (بصورة شاذة) الخلاف هنا يدار بصورة داخلية جدا بعيدة عن الانظار. يمكننا التقدير أنهم في جيش الدفاع الاسرائيلي وفي الاجهزة الاستخبارية يعرفون العيوب في اتفاق فيينا (على رأسها الابقاء على قدرة ايران على تخصيب اليورانيوم وعدم وجود قيود على برنامج الصواريخ). ولكن في نفس الوقت، يدركون الاخطار التي تحدق بتخلي الولايات المتحدة عن الاتفاق.

رئيس الاستخبارات العسكرية السابق، الجنرال احتياط عاموس يادلين، بقي قريبا من كبار ضباط الجيش الاسرائيلي. وهو يعبر بين الفينة والاخرى في تصريحاته عن الاجواء السائدة في هيئة الاركان العامة وفي الاجهزة الاستخبارية. في المقال الذي نشره في هذا الاسبوع يادلين ورئيس معهد بحوث الامن القومي في جامعة تل ابيب، الباحث د. افنير غالوب، يدعون أن هذا ليس الوقت المناسب لالغاء الاتفاق النووي، ويطرحون بدل ذلك على اسرائيل التوصل الى تفاهمات اكثر عمقا مع الامريكيين فيما يتعلق التنصل الممكن من الاتفاق مستقبلا، اذا قامت ايران بخرقه. في نفس الوقت، يوصي الاثنان بتعزيز النشاطات الامريكية والاسرائيلية لوقف مساعدة ايران للمنظمات الارهابية والعصابات، ودفع مجلس الامن الى اتخاذ اجراءات ضد استمرار تطوير برنامج الصواريخ البالستية لطهران.

عدد من كبار رجال الاستخبارات في اسرائيل قلقون الآن اكثر مما يجري في الجبهة القريبة من ايران، سوريا، في اعقاب انتصار نظام الاسد في الحرب الاهلية هناك. اهتمام وسائل الاعلام تركز في الاساس حول نية نشر المليشيات الشيعية، ومن ضمنها حزب الله، قرب الحدود مع اسرائيل في هضبة الجولان. ولكن العملية الايرانية واسعة ولها امكانية كامنة اكثر خطرا – تشمل نية انشاء مطار تحت سيطرة ايران في دمشق، وميناء على شاطيء البحر الابيض في طرطوس (قرب الميناء الروسي)، وربما ايضا وضع قوات برية أكبر في سوريا. في نفس الوقت، اسرائيل قلقة من امكانية أن تعيد ايران ملء مخازن الصواريخ الدقيقة في سوريا، التي فرغ معظمها اثناء الحرب الاهلية. وقلقة ايضا من محاولة ايران نشر صواريخ متقدمة مضادة للطائرات من انتاج روسيا في سوريا. هذه هي الخطوط الحمراء الجديدة لاسرائيل، التي سيرسمها وزير الدفاع افيغدور ليبرمان في الاسابيع القريبة القادمة اثناء لقاءاته مع نظيريه الروسي والامريكي.

حسب تقارير وسائل الاعلام الامريكية في الاسابيع الاخيرة يزداد التأييد في البنتاغون للقيام بعمليات مبادر اليها ضد حزب الله وضد حرس الثورة الايراني، الذي يبحثون في الادارة الامريكية فكرة بالاعلان عنه كتنظيم ارهابي. يبدو أن واشنطن اكثر استعدادا من السابق لزيادة جهود جمع المعلومات الاستخبارية عن حزب الله، وربما حتى التدخل بصورة نشطة ضد جهود تسليحه من قبل ايران. ربما أن ماتيس الذي يرى في نفوذ ايران المتزايد في المنطقة مشكلة ملحة أكثر من موضوع الذرة، سيعمل على عرض خطوات كهذه على ترامب كبديل عن فرض العقوبات على ايران.

هل ستتوقف الهدية عن العطاء؟

في هذه الاثناء، في الساحة الفلسطينية تم أمس في القاهرة افتتاح محادثات المصالحة بين السلطة الفلسطينية وحماس بصورة رسمية. في جهاز الامن الاسرائيلي يعتقدون أنه رغم جهود الوساطة للمصريين، ما زالت هناك عقبات اساسية في طريق التوصل الى اتفاق. مسألة اساسية تتعلق بمستقبل السلاح الموجود في أيدي حماس في قطاع غزة. حتى الآن حماس ترفض تماما طلب السلطة الفلسطينية لاخضاع الذراع العسكري وسلاحه لسلطة الاجهزة في رام الله.

أحد الخيارات التي تطرح في اسرائيل هو موافقة الطرفين أخيرا على مصالحة محدودة، يتم فيها ازالة العقبات الاكثر تعقيدا واقلاقا للطرف الآخر. حماس ستوافق على حل اللجنة الادارية التي انشأتها في القطاع قبل سنة تقريبا. وهي اللجنة التي ازالت بصورة رمزية آخر بقايا وجود السلطة الفلسطينية هناك، رغم أن حكومة حماس أدارت  فعليا القطاع منذ عقد، منذ أن طرد منها رجال فتح في حزيران 2007. في المقابل سيوافق رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على الغاء العقوبات التي فرضها على القطاع في الربيع الاخير – تقليص رواتب موظفي السلطة ودفع ثمن الكهرباء – التي فاقمت سوء الوضع لسكان القطاع في الصيف.

وسواء كانت هذه أخيرا مصالحة صغيرة أو مصالحة كبرى، فان اسرائيل سبق لها أن أوضحت موقفها في هجماتها الشديدة ضد المفاوضات من جانب نتنياهو وليبرمان في هذا الشهر. بالنسبة لنتنياهو فان الفرق بين الضفة الغربية وغزة هو ذخر سياسي اساسي، الهدية التي لا تتوقف عن العطاء – لأنه بمساعدتها يمكن ايضا اضافة الزيت على نار الكراهية بين الطرفين الفلسطينيين الصقرين، وايضا رفض توسلات المجتمع الدولي للعودة وتحريك العملية السلمية (بذريعة أن عباس لا يمكنه ضمان أن اتفاق سياسي مستقبلي يمكنه ان يضم ايضا القطاع).

في هذه الحالة ايضا يبدو أن موقف المستوى المهني في جهاز الامن مختلف قليلا. فهم يدركون هناك الاخطار الكامنة في المصالحة، مثل تعزيز موقف حماس في الضفة الغربية للمس بالتنسيق الامني مع اسرائيل، لكنهم يشخصون ايضا وجود مزايا – على رأسها احتمال تحقيق هدوء امني على حدود القطاع، لفترة زمنية طويلة نسبيا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى