شؤون العدو

التغيير مقابل الاستمرارية في نظرية الأمن الإسرائيلية:

 دراسة مفاهيمية في مواجهة بيئة متغيرة   

ايتان شامير: دكتور محاضر في العلوم السياسية في جامعة بار – إيلان وباحث في مركز بيغن – السادات للدراسات الإستراتيجية.

 

إن هدف هذه الدراسة هو استعراض نظرية الأمن التاريخية ومفاهيمها الرئيسية وعرضها في سياق التوجهات الأساسية في فترتنا هذه، إلى جانب النية في استيضاح المفاهيم التي تحتاج إلى تحديث وتغيير، والأجزاء والمفاهيم في هذه النظرية التي لا تزال تخدم دولة إسرائيل بصورة جيدة حتى في ظل المتغيرات في البيئة (الإستراتيجية) وفي مكونات التهديد؟

نظرية الأمن التاريخية ومفاهيمها الأساسية

سأبدأ بالقول إن نظرية الأمن الإسرائيلية تعتمد قبل كل شيء على مفهوم الردع[1]. ولذلك فإن المفاهيم الأخرى التي تُطرح للنقاش مثل “الحسم” و”الاستنزاف”، ومفاهيم أخرى ظهرت لاحقاً، مثل مفهوم “العملية المحدودة”، هي (المفاهيم) موجودة قبل كل شيء لخدمة الردع.

إن مركزية مفهوم الردع مشتقة من الوضع الجيو – إستراتيجي لإسرائيل. فالمعطيات الجيو – إستراتيجية التي درسها ابن غوريون عندما قام بوضع مبادئ نظرية الأمن الإستراتيجية لم تتغير، منذ زمنه ذاك، بصورة جوهرية، ولذلك فإن مركزية الردع أيضاً لم تتراجع أو تتغير بشكل جوهري منذ ذلك الوقت وحتى اليوم. وإسرائيل لا تزال محاطة بفضاء معادٍ لها من الناحية السياسية والأيديولوجية، ولا يزال هذا العداء يترجم بشكل عنيف. واليوم، لا تزال إسرائيل تفتقد إلى العمق الإستراتيجي. كما أن التوازن الديمغرافي، في هذا الحيز، لم يتغير بشكل جوهري أيضاً.

وفي ذلك الوقت، واليوم أيضاً، إسرائيل غير منخرطة في أي حلف عسكري، وهي تسطيع الاعتماد على جيشها فقط. وبوصفها دولة صغيرة وذات نفوذ سياسي محدود، والذي يرتبط كثيراً بالمصالح وبالرغبة الطيبة لشركائها الإستراتيجيين الكبار (والتي تتصف العلاقة معها بأنها حيوية جداً)، فإنها لا تستطيع ضمان ترجمة نجاحها في ميدان المعركة العسكرية إلى إنجازات على المستوى السياسي بشكل كامل. ومع ذلك فإن الإنجازات العسكرية والقدرة على إلحاق ضرر شديد بالخصم تخدم الردع الإسرائيلي. وتوفر الإنجازات في الحرب الهدوء لفترة زمنية محدودة، على الأقل، لا تتعرض خلالها إسرائيل لأي تحدٍ، وتستطيع التركيز خلالها على تنمية الدولة. وتشكل القدرة على توجيه ضربة للخصم القريب ردعاً أيضاً للخصوم المحتملين الآخرين. والردع ليس مطلقاً، بل ظرفياً، أي يرتبط بتوفر ظروف معينة.

وكنموذج جيد على ذلك تمكن الإشارة إلى حرب يوم الغفران. ففي هذه الحرب حقق الجانب المصري أهدافه السياسية، وخدم استخدام القوة، بشكل شبه كامل، الأهداف السياسية التي خرجت مصر من أجلها للحرب (أما الجانب السوري فلم يحقق أي شيء تقريباً). ولم تتمكن إسرائيل من ترجمة إنجازاتها في ميدان المعركة إلى إنجازات سياسية فورية، ودفعت ثمناً باهظاً جداً في الحرب، ولذلك أصيبت بالإحباط الكبير. ولكن، من خلال نظرة إلى الوراء، يتضح أن الانتصار كان هاماً جداً. فمن المفاجأة المطلقة، ومن وضع صعب جداً في ميدان المعركة، نجحت إسرائيل في قلب الأمور رأساً على عقب، وخرجت وهي متفوقة بشكل واضح (حتى وإن كانت قضية الحسم في المعركة لا تزال حتى يومنا هذا موضع جدل، فإنه لا يوجد أدنى شك حول الأفضلية الإسرائيلية الواضحة في المرحلة الأخيرة من الحرب). وقد ساهم النصر العسكري في الحرب مساهمة كبيرة في ردع دول خط المواجهة عن القيام بمحاولة غزو بري إلى داخل الأراضي الإسرائيلية. وهناك بعض الدول التي وقعت على اتفاقيات سلام، وبعضها الآخر توجه إلى قنوات أخرى بهدف تحدي إسرائيل. ومنذ عام 1973 لم تواجه إسرائيل أية مبادرة لشن حرب تقليدية ضدها.

لقد قسمت نظرية الأمن، التي جرى تطويرها مع قيام الدولة، أنواع التهديدات الرئيسية إلى نوعين اثنين: الأمن الأساسي – أي التهديدات ذات الوتيرة العالية، والتي تتأتى غالبيتها من دول. والأمن الدائم – أي التهديدات ذات الوتيرة المتدنية، والتي يكون مصدرها من دول أو (في غالبية الأحيان) من مصدر ليس بدولة، مثل التنظيمات الإرهابية[2].

وتجد التهديدات الأمنية الأساسية تعبيراً عنها بواسطة عملية يقوم به جيش تابع لدولة ما (ووجود حدود مشتركة هو حيوي لهذا الجانب)، والتي تهدف إلى التوغل داخل إسرائيل من خلال تدمير جيشها، وبعد ذلك احتلال عاصمتها ومراكزها الأخرى, وهذا هو أسلوب “الحرب النظامية” (Regular Warfare)، التي تهدف إلى وضع نهاية لـ “الكيان الصهيوني”. وعلى الرغم من أنه كان لدى الدول العربية عدد من القاذفات الثقيلة، إلا أن عددها القليل من جهة أولى، بالإضافة إلى تفوق سلاح الجو الإسرائيلي، من جهة ثانية، دفعت الدول العربية للتخلي عن احتمال محاولة إركاع إسرائيل عن طريق قصف المراكز الصناعية والسكانية، أي عمليات القصف الإستراتيجية. وبدلاً من ذلك ركزوا على إستراتيجية هزيمة الجيش الإسرائيلي واحتلال الأرض بالاعتماد على التفوق الكمي (العددي) الموجود لديهم، والتعادل التكنولوجي القائم بين الأطراف، بما يشبه احتلال فرنسا من قبل ألمانيا عام 1941، أو احتلال ألمانيا من قبل الحلفاء عام 1945[3].

وفي مقابل هذا التهديد طورت إسرائيل، والجيش الإسرائيلي، نظرية يقف في صلبها الثالوث المعروف: الردع – الإنذار – الحسم.

الردع – بما أن إسرائيل معنية، بشكل أساسي، بتفادي المواجهة فهي توفر الاستعداد والقدرات العالية وتلوّح لخصومها بأن كل محاولة للدخول في مواجهة عسكرية معها مآلها أن تنتهي بتكبيدهم ثمناً باهظاً وأكبر بكثير من المكسب المرتقب.

الإنذار – معظم الجيش الذي يجري تجنيده في دولة إسرائيل يعتمد على قوات الاحتياط التي تكون بحاجة لفترة زمنية لانتشارها على الجبهة. ومن شأن تشكيل الاستخبارات (العسكرية) الناجح أن يقدم تقييماً يعتمد على انتشار قوات العدو ودراسة نواياه وقدراته (مع التركيز على القدرات لأنه من الأسهل كثيراً تعقبها وتحديدها، ولأن نية العدو الأساسية كانت معروفة وكان السؤال المطروح دائماً يتعلق بالتوقيت).

الحسم – إن هدف العمل العسكري الإسرائيلي ضد الجيوش العربية هو تحقيق الحسم الواضح، أي كسر قدرة العدو على الأداء كجسم عسكري منظم (ولكن تبقى هناك جيوب للمقاومة) أو القضاء على إرادته للاستمرار في القتال. وعندما نتحدث عن مفهوم “كسر الإرادة” فإننا نعني بذلك الحالة التي يدرك فيها العدو أن استمراره في القتال سيؤدي إلى تدمير كل قواته. وقد كان الجيش المصري في سيناء عام 1967، والجيش الثالث المصري في عام 1973، في حالة مشابهة. وهدف الحسم هو شل قدرات جيش العدو عن القيام بهجوم إلى داخل أراضي إسرائيل. وقد تم في هذا السياق إضافة مبدأ نقل المعركة إلى أرض العدو وذلك بهدف إبعاد المواجهة عن المراكز السكنية، وخلق ضغط على العدو داخل أراضيه من أجل الوصول إلى نهاية سريعة – وذلك وفق مقتضيات الحاجات الأساسية لإسرائيل.

وبما أنه ليس بوسع إسرائيل إلحاق الهزيمة الكاملة بخصومها، وإملاء شروط الاستسلام عليهم، فإن تدمير جيش العدو لا يشكل نهاية المواجهة. فالحسم الإسرائيلي يخدم تجديد الردع، حتى وإن كان يجب الافتراض أن العدو سيتمكن خلال فترة قصيرة نسبياً، من بناء جيشه من جديد، ليعود بعد فترة معينة ليتحدى دولة إسرائيل[4].

ومن المهم توضيح مفهومين آخرين في سياق نظرية الأمن الإسرائيلية: “الحرب الوقائية” و”الضربة الاستباقية” (Preventive War, Preemptive Strike)[5]. وقد أصبحت هذه المفاهيم أقل أهمية وذلك عندما تراجع التهديد الذي يمكن له أن يتسبب بتهديد وجودي، إلا أنها تعود لتصبح هامة من جديد مع تطور تهديد الصواريخ الذي يغطي كل أراضي دولة إسرائيل.

الحرب الوقائية: تخرج الدولة إلى حرب وقائية عندما ترى أن الجانب الآخر موجود في مراحل عمليات كبيرة لبناء القوة، وهي العمليات التي ستؤدي في نقطة ما في المستقبل إلى الإخلال بتوازن القوى وتراكم العوامل لتقويض الردع. في حالة كهذه تبادر الدولة التي تتعرض لتهديد الحرب، والتي تريد توجيه ضربة قاصمة للتشكيلات العسكرية للدولة العدوة لها وذلك “لإعادة العجلة إلى الوراء”. وتمثل حرب سيناء عام 1956 نموذجاً للحرب الوقائية.

الضربة الاستباقية: عندما تتوفر التقديرات بأن العدو قد اتخذ فعلاً قراره لشن الهجوم، فإن الدولة العدوة تستبق ذلك بتوجيه ضربة بهدف تشويش خطوات العدو. وبهذه الطريقة تستفيد الدولة المهاجمة من عامل المفاجأة، وتضبط الدولة المعادية لها وهي غير جاهزة وتتسبب لها بفقدان توازنها. وتشكل حرب الأيام الستة نموذجاً لهذه الحالة التي قامت فيها إسرائيل بضربة استباقية.

وهناك فرق كبير بين الحالتين لجهة الشرعية الدولية. ففي الوقت الذي يمكن فيه للضربة الاستباقية أن تكون مفهومة في نظر المجتمع الدولي خاصة وأنها تكون مدعومة بأفعال وبخطاب الجانب الآخر (على النحو الذي حدث في حرب الأيام الستة)، وهي مبررة أيضاً باللغة القانونية بوصفها anticipatory self-defense / دفاع استباقي عن الذات، فإن الحرب الوقائية أكثر صعوبة للتبرير، وقد حدث مرات عديدة في التاريخ أن الطرف المعتدي قد هاجم بذريعة مشوك فيها وهي أنه قد فعل ذلك بهدف “تقديم الدواء على الداء”.

وعلى سبيل المثال فإن الهجوم على المفاعل النووي العراقي عام 1981 كان “ضربة وقائية” كان الهدف منها منع تطوير قنبلة نووية عراقية على يد النظام الذي هدد بتدمير إسرائيل. وقد تم استقبال هذا الهجوم من قبل المجتمع الدولي بالإدانات الشديدة. وفقط بعد حوالي عشر سنين، عندما أصبح واضحاً أن العراق كان قد استخدم سلاح الإبادة الجماعية بدون تردد ويواصل جهوده للحصول على سلاح كيميائي، أقر العالم بالموقف الإسرائيلي. وهناك نموذج آخر لتعقيدات “الحرب الوقائية” وهو يتمثل بالغزو الأمريكي للعراق عام 2003 والذي تم القبول به بتفهم جزئي لدى أوساط كبيرة من الرأي العام وبين زعماء الغرب. وبعد احتلال بغداد من قبل الأمريكيين عام 2003 اتضح أنه لا يوجد سلاح إبادة جماعية وتعاظمت بعد ذلك الانتقادات الدولية للولايات المتحدة الأمريكية ولحلفائها.

وبطبيعة الحال فإن القاعدة التي تنطبق على الدولة العظمى ليست نفسها التي تنطبق على الدولة العادية، ولذلك تحاول دولة إسرائيل عدم توجيه “ضربة استباقية”، وبما لا يقل عن ذلك “حرباً وقائية”، إلا إذا كانت مؤهلة لحشد دعم دولي كبير لها (وبخاصة من الولايات المتحدة الأمريكية). وفي عام 1967 كانت إسرائيل تفتقد إلى العمق الإستراتيجي وشعرت أنها مكشوفة ولذلك لم تُقْدم على المخاطرة، ووجهت “ضربة استباقية” للاستعدادات الهجومية للجيش المصري. وفي مقابل ذلك فإن إسرائيل قد امتنعت عشية حرب يوم الغفران عن توجيه “ضربة استباقية” بسبب الضغط الأمريكي، علاوة على التقصير في تقدير قدرات العدو. كما أن منطقتي سيناء وهضبة الجولان وفرتا لها العمق الإستراتيجي والشعور بالأمن اللذين كانت تفتقر إليها عشية حرب الأيام الستة.

إن مجموعة الاعتبارات للعمليات التي تهدف إلى منع ازدياد قوة التنظيمات التي تتحدى إسرائيل (وبخاصة حزب الله وحماس) هي اعتبارات معقدة. وهناك اليوم نشاط إحباطي متواصل تحت عنوان (المعركة بين الحروب) والتي هي “إعادة تغليف” للمصطلح التاريخي “الأمن الدائم” وذلك بسبب عدد من العوامل الخاصة التي أضيفت مع مرور الزمن لهذا النشاط. أما الهجمات الموضعية فهي تحدث عندما تكون هناك معلومات استخبارية دقيقة حول محاولة لتهريب الأسلحة والتي تُعرف في منظومة الأمن على أنها “كاسرة للتوازن”. ويُنظر إلى هذه الهجمات، في غالب الأحيان، على أنها جزء من قواعد اللعبة التي يأتي الردع في إطارها. إلا أن إسرائيل تمتنع عن شن هجمات على عمليات التسليح الأوسع وذلك خشية حدوث تصعيد يرتبط أيضاً بخسائر بين المدنيين وهو ثمن مرتفع أكثر من اللازم ضد خصم يستطيع أصلاً التسبب بالألم إلا أنه لا يستطيع أن يهزم الجيش الإسرائيلي، أو تشكيل تهديد على وجود إسرائيل.

الأمن الدائم: تجد تهديدات الأمن الدائم تعبيراً عنها في هجمات حرب العصابات والهجمات الإرهابية، وعمليات تسلل الجماعات الصغيرة، وإطلاق النار على مواقع الجيش والتجمعات السكنية المدنية، والعبوات الناسفة، والكمائن، والهجمات الإرهابية على السكان المدنيين، وهجمات المساومة، والهجمات الانتحارية وسواها، عن طريق الحرب “غير النظامية” (Irregular warfare). وهدف هذه الحرب هو إلحاق الضرر المعنوي والنفسي عن طريق الاستهداف المتواصل لحياة البشر والممتلكات وذلك بغية تقويض وإضعاف صمود المجتمع المدني في إسرائيل. أي إستراتيجية التآكل والاستنزاف بشكل تدريجي (التآكل هو مصطلح يتطرق إلى الجانب المادي، بينما يتطرق الاستنزاف إلى الجانب المعنوي. وبطبيعة الحال هناك علاقة بين المصطلحين، وتأثير متبادل بينهما).

هذا ويتكون الرد الأمني الإسرائيلي على تحدي “الأمن الدائم” من مكونين دفاعي هجومي. وقد اشتمل المكون الدفاعي على مختلف العوائق والدوريات والرصد والكمائن والتقديرات ويقظة الجبهة الداخلية المدنية بما في ذلك جماعات الاستنفار ووحدات الدفاع الإقليمي. أما المكون الهجومي فقد اشتمل على الاغارات (التوغلات البرية) والعمليات الموضعية وذلك بهدف ضرب القوات التي تخطط لتنفيذ نشاطات ضد إسرائيل.

وبين الحروب “الكبيرة” (ذات الوتيرة المرتفعة وضد جيوش تابعة لدول)، كان وقت الجيش الإسرائيلي مخصصاً، بشكل رئيسي، للتحضيرات وللتدريبات استعداداً للحرب “الكبيرة” القادمة. وكذلك لـ “الأمن الجاري”. أي أن الجيش الإسرائيلي كان موجوداً تاريخياً، معظم الوقت، في حالة مواجهة بوتيرة منخفضة والتي شملت جوانب دفاعية وهجومية. وفي فترات معروفة كهذه كانت هناك العمليات الانتقامية خلال النصف الأول من الخمسينات، وكذلك عمليات المطاردة في غور الأردن في نهاية الستينيات، والاغارات والمعارك خلال حرب الاستنزاف على قناة السويس، ونشاط الجيش الإسرائيلي في لبنان خلال الثمانينيات والتسعينيات، وكذلك الانتفاضة أواخر الثمانينيات، وحملة الإرهاب الفلسطيني (التي يسميها الفلسطينيون “الانتفاضة الثانية”) بداية العقد المنصرم.

صعود “التهديدات ذات الوتيرة المتوسطة”

لقد تعاملت نظرية الأمن الإسرائيلية مع التهديدات منخفضة الوتيرة في إطار مفاهيمي يرتبط بـ”الأمن الجاري”، ومع التهديدات ذات الوتيرة المرتفعة من خلال مفهوم “الأمن الأساسي”. إلاّ أنه خلال العقود الثلاثة الأخيرة تراجع احتمال التهديدات ذات الوتيرة المرتفعة (حتى وإن لم تكن قد اختفت بالمرة)، أي تهديد الغزو العسكري إلى داخل أراضي دولة إسرائيل من قبل جيش تابع لدولة ويستخدم القوات البرية والجوية والبحرية. وقد بقيت التهديدات ذات الوتيرة المنخفضة فعالة، وهي تتحقق اليوم، بشكل أساسي، عبر أفراد في أراضي يهودا والسامرة، وعبر محاولات تنفيذ هجمات، أو عمليات اختطاف على الحدود اللبنانية، وغزة أو سيناء. أما التهديد من جانب إيران، وهي دولة معادية ولها طموحات نووية ولا توجد لها حدود مشتركة مع إسرائيل، فإنه يجب التعامل معها بشكل مستقل، ولن تتم مناقشته  في هذه الوثيقة.

أما التجديد الكبير الذي حصل خلال السنوات الأخيرة، والذي لا تعطيه نظرية الأمن الإسرائيلية الاهتمام المناسب، فهو يتعلق بالتهديدات ذات الوتيرة المتوسطة، أي التهديدات التي توجد في مكان ما في وسط الخط الواصل بين المواجهة ذات الوتيرة المنخفضة والمواجهة ذات الوتيرة العالية. ويختلف منطق هذه التهديدات عن منطق الدولة، وعن منطق التنظيم الإرهابي، على حد سواء.

ويرتبط هذا التطور بمتغيرات البيئة السياسية الإستراتيجية والتي كانت نتيجتها زيادة في قوة التنظيمات التي لا ترتقى إلى مستوى الدولة، والتي طورت قدرات عسكرية جدية، وهي لا تزال أقل قدرة من الدول التي كانت إسرائيل في حالة نزاع عسكري معها، إلا أنها أشد خطراً بكثير من التنظيمات الإرهابية وتنظيمات حرب العصابات والتي كانت مؤهلة، لو أنه تم اختبارها على المستوى الإستراتيجي، لإزعاج إسرائيل وإرباكها، إلا أنها كانت تفتقد إلى القدرات لتشكيل تهديد جدي من النوع الذي يقتضي من دولة إسرائيل تخصيص قسم ملحوظ من جيشها ومواردها لصده. ولا يزال هذا التهديد وطريقة مواجهته، حتى الآن على الأقل، لا يرقيان إلى درجة المواجهة ذات الوتيرة المرتفعة، على النحو الذي كان قد حدث على سبيل المثال خلال حرب يوم الغفران أو خلال حرب الأيام الستة، بكل ما يعنيه ذلك (لجهة الخسائر والكلفة الاقتصادية والمدلولات الدولية، وما إلى ذلك). إلا أننا إذا قمنا بتحليل اتجاه التطورات وبناء القوة فإننا نجد أن هذا الاحتمال هو احتمال قائم في المستقبل.

 

إن اتجاه تطوير تنظيمات المقاومة لم يبدأ في القرن الحادي والعشرين بل قبل عقدين من ذلك. فمنذ الثمانينيات استغلت منظمة التحرير الفلسطينية لبنان بهدف بناء تنظيم شبه عسكري مسلح بشكل جيد بصواريخ الكاتيوشا، بالإضافة إلى الأسلحة الثقيلة، التي استخدمها لتنفيذ رمايات إلى داخل دولة إسرائيل. وفي صيف عام 1981 قام الفلسطينيون بإطلاق أكثر من 1200 صاروخ خلال عشرة أيام إلى الجليل. وخلال السنة التي تلت ذلك أطلقوا أيضاً مئات الصواريخ خلال عدة حوادث. وقد أكسب فشل الجيش الإسرائيلي في التغلب على قدرة البقاء التي تمتلكها منظومة النيران الفلسطينية – بسبب الانتشار الواسع، والحماية، واستخدامها للبيئة المدنية كبيئة حامية لها – كل ذلك أكسب المنظمة قدرة على المساومة في مواجهة إسرائيل. وقد دفعت صور المدنيين المذعورين في كل من كريات شمونا ونهاريا، خلال “أيام الاستنزاف العشرة” في صيف 1981، من بين أمور كثيرة، دفعت الحكومة الإسرائيلية إلى إتخاذ القرار بالمبادرة إلى عملية “سلامة الجليل”، وذلك عندما تم إطلاق مئات الصواريخ من جديد في صيف 1982.

إن حزب الله وحماس هما تنظيمان قاما بتطوير قدرات عسكرية متطورة تتجاوز بكثير ما كنا قد اعتدنا على رؤيته في السابق لدى التنظيمات الإرهابية أو تنظيمات حرب العصابات. إلا أن ذلك لا يقتصر عليهما، إذ أن تنظيم الدولة الإسلامية داعش، وكذلك جبهة تحرير الشام (النصرة سابقاً) يتطوران في الاتجاه نفسه. وعملياً فإن هذه التنظيمات تطبق نموذج تطور الحركة الثورية السرية التي تتبنى حرب العصابات، وهو النموذج الذي صاغه زعيم الثورة الشيوعية في الصين، ماو تسي تونغ، والذي يشتمل على ثلاث مراحل:

1- مرحلة العمل السري – يكون فيها التنظيم صغيراً وضعيفاً وينشط بشكل أساسي في مجال الدعاية والحرب غير النظامية (الإرهاب وحرب العصابات) وذلك بهدف زيادة التعريف بوجوده وبأهدافه، وكذلك من أجل تقويض ثقة المواطنين باستقرار النظام.

2- مرحلة التوازن – حيث يراكم التنظيم القوة والمؤيدين، ويصبح في هذه الفترة، على الرغم من أنه لا يتمتع بالقوة الكافية من أجل احتلال كل الأرض المستهدفة، يصبح ملزماً بحماية السكان المدنين والثروات التي راكمها، ولذلك هو مؤهل، بل ومرغم، على إدارة حرب نظامية ودفاعية حول المناطق التي تشكل قاعدة له، بينما يستمر في صب جلّ الجهد الهجومي الرئيسي الخاص به على الهجمات غير النظامية التي تزداد قوة ضد العدو.

3- مرحلة الهجوم النظامي – والتي تصبح فيها الحركة قوية بما فيه الكفاية من أجل البدء بهجوم علني ضد النظام وضد جيشه وذلك بهدف هزيمته وإخراجه من السلطة.

ويبدو أن التنظيمات التي تخوض إسرائيل المواجهة معها تمر بمسار مشابه لهذا الموصوف على أنه نموذج ماو (تسي تونغ)، وهي قد انتقلت من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية. ومن الصعب التوقع إذا ما كانت تريد، أو تستطيع، الانتقال في المستقبل إلى المرحلة الثالثة. ويبدو اليوم أن التركيز على المحور (الرابط) بين المرحلة الثانية والثالثة يخدمها جيداً. وصحيح أن حركة حماس هي عملياً مينى – دولة، وحزب الله شريك كبير في إدارة شؤون لبنان ويسيطر على منظومات سياسية واقتصادية واجتماعية، وعسكرية بطبيعة الحال، إلا أنه من الواضح في الحالتين أن الانتقال إلى صيغة جيش الدولة النظامي سيشكل خللاً ذلك أنه سيقلص من المزايا النسبية التي يتمتع بها التنظيمان بصورتهما الحالية.

لذلك قام حزب الله، وفي أعقابه حماس، بتطوير كيانية تفسح المجال، من جهة أولى، أمام الاستفادة من تشكيلات وصور عمل حرب العصابات والإرهاب بدون الإلتزام بالمعاير الدولية التي تخضع لها الدول. ومن جهة ثانية، هما يقيمان ذراعاً سياسية، وأخرى عسكرية، على مستوى عالٍ من التنظيم، وكذلك إجراءات بيروقراطية ومنظمة للتجنيد والتأهيل والتنفيذ. وطوّرا كذلك قدرات قتالية ضد جيوش على مستوى الدول، وبخاصة لجهة الدفاع عن الذات، وذلك عن طريق استخدام منظومات متطورة للقيادة والتحكم، والتحصينات المتطورة، والسلاح المتطور ضد الدبابات والهاونات بهدف ضرب تحرك القوات البرية لجيش تابع لدولة ما مثل الجيش الإسرائيلي. وعلى المستوى الهجومي، يعتمد التنظيمان على تشكيل مدفعي كبير ذو ميزات عالية، وهو يشكل اليوم تهديداً على كل نقطة في البلاد. وعلاوة على ذلك، هما يقومان ببناء قوات بمستطاعها تنفيذ عمليات إغارة (تسلل) صغيرة بهدف تنفيذ عمليات ضد وحدات الجيش أو في المستوطنات، وربما كذلك السيطرة على مستوطنة صغيرة أو على قاعدة للجيش الإسرائيلي، وذلك بهدف ضرب وتحطيم المناعة الاجتماعية.

إن هذا الدمج بين ما هو تقليدي وما هو دون – تقليدي لتنظيم ليس بدولة قد تم تعريفه من قبل محللين غريبين على أنه “تنظيم هجين” أو “تهديد هجين”[6]. أي الدمج بين حرب العصابات والإرهاب مع الحرب النظامية. وذلك وفق مقتضيات الظروف والأهداف. ويقترح باورز، وهو ضابط أمريكي، ثلاث خصائص لتحديد التنظيم الهجين وهي: النضج على مستوى التنظيم والقيادة، ودرجة استغلال المعطيات الطبيعية التي توفرها له البيئة (البيئة الجغرافية أو البشرية) لمصلحته بحيث يترك الحد الأدنى من الأثر، الأمرالذي يمكن أن يشكل مشكلة للقوات النظامية التابعة لدولة ما على الرغم من تفوقها التكنولوجي. وقد بنى حزب الله في لبنان تشكيل “المحميات الطبيعية” من خلال استغلال الطبيعة الجبلية الكثيفة الأشجار في لبنان. أما في غزة فإن حركة حماس تستخدم “الغابة الحضرية” بهدف التمويه، والدروع البشرية كملاذ لها. كذلك الحال فإن حماس قد أقامت شبكة من أنفاق التواصل والأنفاق الهجومية تحت الأرض وذلك من خلال استغلال المزايا التي تمنحها لها الخصائص الجيولوجية للأرض في المنطقة إلى أقصى درجة ممكنة. اما الخاصة الثالثة، التي كنا قد طرحناها سابقاً، وهي القدرات المتنوعة، والتي تلامس في جزء منها قدرات الجيوش التابعة للدول[7].

وفي زمن كتابة هذه السطور، فإن التهديد الأكبر الذي تشكله هذه التنظيمات على دولة إسرائيل هو قدرتها على استخدام الرمايات ذات المسار المنحني والتي تصبح أكثر دقة، وذات مديات وكثافة أكبر (من حيث كميات الصواريخ وحجم الرأس المتفجر). ونجد اليوم أن حزب الله، وبدرجة أٌقل حركة حماس، مؤهلان لتصعيد المواجهة إلى مستوى المواجهة ذات الوتيرة العالية، أي بمعنى خلق تهديد وجودي. وبسبب القدرات التي تمتلكها إسرائيل للتصعيد في مقابل ذلك فقد نشأ ردع متبادل يلجم الطرفين ويُبقي على المواجهة تحت عتبة “الحرب الشاملة”.

والوضع الذي تكون فيه تنظيمات لا ترتقى إلى مستوى الدولة قادرة على تشكيل تهديد إستراتيجي على دولة قوية ومستقرة نسبياً، والتصعيد إلى درجة الحرب الشاملة، هو وضع فريد. وهذا تهديد تواجهه دولة إسرائيل فقط، وهو ينبع من ظروف وتطورات تنفرد بها منطقتنا[8]. والقدرات الفريدة التي يتمتع بها حزب الله هي نتاج للاستثمار المكثف من قبل إيران، التي رعت حزب الله ومنحته قدرات تتجاوز قدرات تنظيم حرب العصابات السري الذي عرفناه خلال التاريخ. فعلى سبيل المثال، صحيح أن إيران قد زودت الميليشيات الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن بالأسلحة إلا أنها لا تصل إلى مستوى قدرات حزب الله. ويمكن الإدعاء أن حزب الله يشكل امتداداً إيرانياً، وجيشاً إيرانياً، بكل المقاييس، ويعمل بقيادة وبتسليح وتأهيل وبنظرية إيرانية، وبجنود شيعة لبنانيين. ومن ناحية النظرية العسكرية فإن حزب الله يشبه حرس الثورة الإيراني، والذي تبنى، هو الآخر، نوعاً من الحرب غير النظامية أو شبه النظامية لمواجهة التفوق الأمريكي في الخليج الفارسي.

 

 

مفهوم الحسم ضد التهديدات ذات الوتيرة المتوسطة الخاصة بالتنظيمات الهجينة

إن مصطلح “الحسم” هو مصطلح إشكالي لعدة أسباب سواء كان ذلك بسبب الخلط بين الحسم نتيجة لعمل (عسكري) وبين الحسم كأسلوب للعمل، وسواء لأنه لا يوجد تعريف واضح وقاطع لمصطلح الحسم بمعنى نتائج العملية[9].

إن التفسير البدهي والأكثر انتشاراً للحسم هو بمعنى نتائج العملية. وبهذا المعنى فإن المفهوم يدل على هزيمة ساحقة. وإذا ما سألنا بشكل مجازي من مجال الملاكمة فإن ذلك يعني الضربة القاضية، وهو الوضع الذي يكون فيه الخصم ملقى على الأرض دون حول ولا قوة. وفي سياق نتائج العمل (العسكري) فإن هناك من درج على استخدام مصطلح “الحسم” بهدف الإشارة إلى الهزيمة الساحقة لطرف ما.

وفي مقابل ذلك، أي في سياق أسلوب العمل، فإن “الحسم” هو أسلوب مناقض لأسلوب “الاستنزاف”. وهذا هو أسلوب العمل الذي يحاول القيام بالمهمة عن طريق ضربة واحدة مركزة وسريعة، والتي تستلب من الخصم قدرته على المقاومة. في الوقت الذي نجد فيه أن أسلوب عمل الاستنزاف يرفع راية تحقيق الهدف بالتدريج، وذلك عن طريق القضاء على إرادة العدو للاستمرار في القتال، وهي عملية من الطبيعي أن تستغرق زمناً أطول بكثير.

إن استخدام مصطلح “الحسم” في هذا السياق هو فريد بالجيش الإسرائيلي. فالمصطلحات الأساسية، التي جرى تطويرها في أواخر القرن التاسع عشر من قبل المحلل الألماني دلبروك[10] وتم تبنيها من قبل كل الجيوش الأوروبية والأمريكية، قد ميزت بين أسلوبي عمل: الإبادة أو التدمير (بالألمانية Niederwerfung Strategie وبالإنكليزية Strategy of annihilation)، والاستنزاف (بالألمانية Ermattungs Strategie وبالإنكليزية Strategy of exhaustion). الأول خُصص لتدمير جيش العدو عن طريق قتل عناصره وتدمير عتاده، وخُصص الثاني للقضاء نفسياً (معنوياً) على جيش العدو عن طريق الملاحقة التي لا تتوقف وضرب قدراته على البقاء وترميم نفسه أيضاً بدون معركة حاسمة (أي حرب غير نظامية أو حرب عصابات).

وقد جرت في الجيش الإسرائيلي عملية متدرجة للهروب من مصطلح الإبادة لسببين: الأول يرتبط بصورته، والثاني فكري. ففي الجانب الأول يبدو أن اعتماد الجيش الإسرائيلي على إستراتيجية إبادة العدو يستجلب النقد العام وهو أمر غير مريح للجيش الإسرائيلي ولدولة إسرائيل. أما في الجانب الفكري فقد تم الإدعاء بأن اعتماد الخطة العملياتية على إبادة العدو تتطلب احتكاكاً قتالياً كبيراً معه، ولذلك فإنه من المتوقع أيضاً أن يتكبد الجيش الإسرائيلي خسائر كبيرة بين صفوفه. ولذلك فإنه من الواضح أن “الأسلوب غير المباشر” الذي تبناه الجيش الإسرائيلي من فلسفة البريطاني ليدل هارت، يتطلب من قادة الجيش الإسرائيلي البحث عن طرق لتحقيق هزيمة العدو بطريقة تقلص القتال قدر الإمكان وذلك بهدف تقليص الخسائر في صفوفه إلى أدنى درجة ممكنة. ومطلوب من القائد في الجيش الإسرائيلي البحث عن نقاط الضعف الموجودة لدى العدو، والتي يؤدي ضربها إلى إنهياره التنظيمي والمعنوي، وتحقيق النصر عن طريق إنسحاب العدو بدون قتال. وهذا هو تعبير عن التركيز على الحسم كأسلوب عمل أيضاً وليس كنتيجة فقط.

وفي سبعينيات القرن العشرين بدأت جيوش أوروبا وأمريكا بالارتداع عن استخدام مصطلح “إبادة” وبحثوا عن مصطلح بديل. وقد اختاروا أن يقسموا المصطلح إلى اثنين، “إستراتيجية المناورة” (Strategy of manoeuvre) و”إستراتيجية الاستنزاف” (Strategy of attrition). وتعبّر إستراتيجية المناورة عن رؤية مماثلة “لإستراتيجية الحسم” الخاصة بالجيش الإسرائيلي. وقد جاءت “إستراتيجية الاستنزاف” لتستبدل كلمة “إبادة” بكلمة أكثر لطفاً بدون تغيير في جوهر الإستراتيجية. وقد تم اختيار كلمة (attrition) بهدف مواجهة مشكلة أخرى ترتبط بالمشاعر – وهي الندوب التي خلفتها الحرب العالمية الأولى، والتي شاركت فيها كل الجيوش بخطط تهدف إلى تحقيق “الحسم السريع” عن طريق استخدام القوات التي تخترق التشكيل المعادي في نقطة ضعفه ما يؤدي إلى محاصرته وتدميره. وقد فشلت كل الجيوش، وتجمدت الحرب. واستبدل كبار القادة، بشكل تدريجي، نظرياتهم وبدأوا بالحديث عن تدمير تدريجي للعدو – وذلك وفق المصطلح الذي كان دارجاً حينها وهو “استنزاف قوة العدو البشرية” (بالفرنسية  Guerre d’usure، وبالإنكليزية Wearing-down the enemy). وفي فيتنام عبّر الجيش الأمريكي عن هذه النظرية بمصطلح (Body-count) (إحصاء الجثث). وكان على الكلمة الأجنبية الجديدة أن تكون مختلفة عن الكلمات التي اُستخدمت خلال الحرب العالمية الأولى، والتي نُظر إليها على أنها “أم كل الشرور” للقذارات العسكرية، وتختلف عن المصطلحات التي استخدمت في فيتنام، والتي نُظر إليها في السبعينيات على أنها حرب غير – عادلة والتي أديرت بشكل غير أخلاقي وغير حكيم.

وبسبب التفسيرات الكثيرة لمصطلح “الحسم” ظهرت في الجيش الإسرائيلي صعوبة كبيرة وذلك عندما يتم البحث في الحسم كنتيجة في إطار تخطيط أو إدارة المعركة التي تعتمد على “الاستنزاف”. وتزداد هذه الصعوبة وذلك لأنه في المعارك التي تعمد على الاستنزاف يكون في بعض الأحيان من الصعب جداً تمييز أو تحديد نشوء “حالة الحسم” (وفي بعض الأحيان يتم تحديدها بعد فوات الأوان).

كما أن مصطلح “استنزاف” هو مصطلح إشكالي. وهو ترجمة لمقولة دلبروك، التي تم دمجها في الفلسفات العسكرية الأوروبية والأمريكية. وكما جرت الإشارة من قبل، فإن هذا المصطلح قد جاء للتمييز بين الإستراتيجية التي ترفع شعار إبادة قوات العدو، وبين الإستراتيجية التي ترفع لواء كسر روحه المعنوية. أي أن الجيش الذي يختار إستراتيجية “الاستنزاف” يوجه نشاطاته الحربية لضرب معنويات وقوة الإرادة لدى العدو – وهذا لا يعني أنه يمتنع عن القتل والتدمير، إلا أن الأهداف التي يقوم بضربها قد تم اخيارها بسبب تأثيرها المعنوي وليس تأثيرها المادي. وبشكل عام يفضل من يعتمد هذه الإستراتيجية ضرب الإهداف “الرخوة” – الهيئات المسؤولة عن الإمداد والبنى المدنية، وحتى المدنيين أنفسهم، والرموز الهامة – المرتبطة بالمناعة القومية، وهي الأهداف التي تصعب حمايتها، أو ليس بوسعها أن ترد الحرب بالحرب.

وكما سبق القول فإن الجيش الإسرائيلي قد اعتمد على مدى سنوات على إستراتيجية الحسم، وأيضاً على السعي لتحقيق نتائج حاسمة. ويوجد لمثل هذه الإستراتيجية أثمان يجب أن نكون واعين لها. فإستراتيجية الحسم التي تسعى لتوجيه ضربة لنقاط الضعف والدفع باتجاه الإنهيار السريع لمنظومة الخصم تتطلب الإقدام على مخاطرات كبيرة. فعلى سبيل المثال، في عملية “موكيد” (حزيران / يونيو 1967) بقيت اثنتا عشرة طائرة للدفاع عن سماء الدولة في الوقت الذي اُرسل سلاح الطيران كله لتنفيذ مهام هجومية. وقد ضمن نجاح العملية النصر في الحرب كلها، وهناك الكثيرون ممن يرون فيها “حالة الحسم”، إلا أنه في حالة الفشل فإن الدولة كلها كانت ستكون مكشوفة. كذلك الحال في علمية عبور القناة عام 1973 كنقطة حسم على الجبهة المصرية خلال حرب يوم الغفران، تم أيضاً الإقدام على مخاطرات كبيرة، وتم الإقدام على المخاطر من خلال وضع الضائقة الإستراتيجية ونتيجة الشعور بفقدان الخيارات. كما أن نتيجة الحسم تتطلب ثمناً وذلك لأنه معروف بشكل مسبق أن الهدف الطموح للتسبب بإنهيار العدو وفقدانه القدرة على الأداء يتطلب توظيف موارد ضخمة ووسائل أكبر، ولذلك فإنه يجب اختياره كأسلوب عمل ليس فقط عندما تكون الحاجة إلى ذلك مثبتة وجلية.

 

لقد كُتب الكثير عن أن التنظيمات التي تشكل تحدياً لإسرائيل قد أقيمت منذ البداية وفق صيغة تهدف إلى منع تحقيق الحسم ضدها بشكل سريع[11]. إلا أنها تدفع الثمن على ذلك أيضاً، فهي غير مؤهلة لتنفيذ عملية برية قوية بحجم كبير داخل الأراضي الإسرائيلية وذلك بهدف محاولة تدمير الجيش الإسرائيلي و / أو احتلال المراكز السكانية الإسرائيلية. وفي مقابل ذلك فهي مؤهلة لتوجيه رماياتها النارية باتجاه المراكز السكانية الإسرائيلية طيلة فترة جولة العنف.

وعلى ضوء التحليل المقدم أعلاه فإنه يُطرح سؤالان: هل إسرائيل قادرة على الحسم؟ وهل يجب على إسرائيل الاستمرار في سعيها إلى الحسم كمبدأ أساسي في نظرية الأمن (على النحو الذي كان سائداً في الماضي)؟

إن الطريقة تقوم فيها التنظيمات بنشر قواتها، وتمويهها وحمايتها، وقدرتها على العمل بشكل مستقل تقريباً، كل ذلك دفع بعض المحللين والخبراء إلى القول إنه لا توجد لدى الجيش الإسرائيلي، وفق الصيغة الحالية، القدرة على الحسم.

وفي ظروف سياسية وعسكرية مناسبة، والتي تشعر فيها دولة إسرائيل أنه ما من خيار أمامها وتقوم بتوظف كامل طاقتها لحسم الخصم، فإن هناك أساساً للافتراض أنها ستنجح على الأقل في تدمير (أي حسم) غالبية التشكيل العسكري، وتجريد الخصم من قدرته على الأداء وهذا لا يعني أنه لن تطلَق كمية ما من الصواريخ على إسرائيل، إذ أن حسم قوة عسكرية نظامية تابعة لدولة ما لا يضمن ألا تستمر وحدة هنا أو هناك في الإطلاق. والمشكلة بطبيعة الحال هي أن الرمايات اليوم لا تتم على الجبهة (الأمامية) بل باتجاه الجبهة الداخلية المدنية. ولكن في الوقت الذي يجب فيه الحفاظ على قدرة الحسم من أجل خدمة الردع ولتشكيل عتبة التصعيد الأعلى فإنها تحمل بين طياتها أثمان كبيرة على الصعيد السياسي وعلى صعيد  الموارد، وحياة البشر، والكثير من المخاطر. ولذلك يجب أن يُنظر إلى الحسم كمخرج أخير في حالة “انعدام الخيارات”.

ومن الناحية التاريخية فقد تحقق حسم الخصم على المستوى الشامل على يد قوة برية مهاجمة قامت بتدمير القوة العسكرية للخصم واحتلت أراضيه. وقد تم تحقيق الهزيمة الكاملة على المستوى الإستراتيجي عبر إحدى طريقتين: الأولى عن طريق تدمير الجيش واحتلال الأرض وإجبار النظام على الرضوخ نتيجة لانعدام القدرة على حماية نفسه. في مثل هذه الحالة، كانت هناك في بعض الأحيان حاجة أيضاً إلى قمع السكان المدنيين في حال أبدوا أية مقاومة (على سبيل المثال هزيمة فرنسا من قبل بروسيا عام 1871). أما الطريقة الثانية فيتم تحقيقها عن طريق الحصار المتواصل والذي يتسبب في فقدان القدرة والرغبة على القتال (لقد هُزمت ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى بسبب رئيسي وهو الحصار البحري الذي فُرض عليها وتسبب بالمجاعة وبفقدان المواد الخام الأساسية). وعملياً فإن غالبية الحروب خلال التاريخ كانت حروب حصار. وبما أن إسرائيل ممنوعة، في غالب الأحيان، عن فرض الحصار المتواصل (الاستثناء الوحيد كان في بيروت عام 1982، وكذلك غزة يمكن اخضاعها عن طريق فرض الحصار لو أنه كان هناك تبرير قانوني وأخلاقي لذلك) فإنه يبدو أنها بحاجة إلى قوات برية تقوم بشن الهجوم وبتدمير قوات العدو في حال أن الهدف الذي تم تحديده هو تحقيق الحسم.

وعلى خلاف الماضي، وبسبب طبيعة التهديد، فإن الحسم اليوم هو أمر لا يتطلبه الواقع. وعلى خلاف الماضي أيضاً حيث كان الجيش الإسرائيلي يجد نفسه في وضع متدنٍ أمام أعدائه، فإن هناك اليوم وضعاً معكوساً: فعدم التناظر في توازن القوى الأساسي بين الجيش الإسرائيلي وبين التنظيمات الهجينة هو لصالح الجيش الإسرائيلي. وعليه فإن إسرائيل ليست ملزمة دائماً باستخدام الهجوم البري الواسع النطاق. إلا أنه من المهم الإشارة هنا إلى أن الهجوم والنشاط البري بشكل عام لا يُستخدمان فقط من أجل الحسم، بل يشكلان جزءاً لا يتجزأ من صندوق الأدوات العملياتي، ويُستخدمان كرد على طيف واسع من التحديات العملياتية مثل عملية تدمير الأنفاق في عملية “الجرف الصامد” في غزة عام 2014، أو الدخول المحدود للقوات البرية في علمية “الرصاص المصهور” عام 2008.

وبشكل عام، فإنه يوجد لدى المستويين السياسي والعسكري ميلاً لمحاولة تفادي القيام بهجوم بري في غزة وفي لبنان وذلك بسبب المخاطر المرتبطة بذلك. والخطر الكامن في هذه الحالة من شأنه أن يقع عندما يُنظر إلى العملية البرية على أنها غير ضرورية وذات احتمال (نجاح) متدنٍ، وفي أعقاب ذلك من شأن الجيش أن يقلل الاستثمار في قدرات الهجوم البري. وبداهة، فإنه كلما تراجعت القدرة العملياتية للهجوم البري فإنه يتراجع، بما ينسجم مع ذلك أيضاً، الاستعداد لتنفيذه. كما أن الطرف الثاني، المعادي، سيلاحظ تراجع هذه القدرات ويصبح أقل ارتداعاً من تهديد الدخول إلى أراضيه. وفي أعقاب خسارة عامل الردع هذا فإنه قد يتم التحرش بإسرائيل بصورة خطيرة. ومن المفارقات أن انتكاس (فكرة) الهجوم البري من شأنه أن يؤدي إلى حالة “انعدام الخيارات” والحاجة إلى القيام بهجوم بري بسبب الاستفزازات التي لا يمكن تحملها، وهو الوضع الذي سيؤدي في نهاية المطاف، بسبب القدرة المتدنية للقوات البرية، إلى وقوع عدد من الخسائر الذي سيكون مرتفعاً نسبياً – وذلك مثل النبوءة التي تحقق ذاتها. والحفاظ بالذات على قدرات هجومية كبيرة يردع الخصم الذي يريد تفادي مواجهة مع هجوم بري فعال داخل أراضيه وبذلك يريح الجيش الإسرائيلي مسبقاً من الحاجة إلى القيام بهجوم بري، وحتى إذا ما كانت هناك حاجة للأمر فإن الثمن سيكون متدنياً نسبياً.

وعليه، فإنه في الوقت الذي توجد هناك حاجة إلى الاستمرار في تطوير قدرات الحسم والتلويح من خلالها للعدو بالثمن الذي يخاطر بتحمله فإنه من المحتمل نشوء وضع تكون فيه كل الجولات محدودة دون وجوود حاجة لحسم العدو لأسباب مختلفة[12]. وكما سبق القول فإنه في حالة الحسم أيضاً فإن الحديث يدور عن حسم الذراع العسكرية، وليس الحسم الكلي والذي يؤدي إلى إبادة التنظيم نهائياً بل إلى إضعافه بشكل مؤقت، على الأقل، طالما أنه كانت هناك دول تقوم بإعادة ترميمه، وما يكفي من المتطوعين المرتبطين به أيديولوجياً، بما يشبه إلى درجة كبيرة إستراتيجية الجولات التي وضعها ابن غوريون والتي كانت تتعامل في حينه مع دول.

إن هدف إسرائيل في كل جولة (وبين الجولات ضمن إطار المعركة بين الحروب) هو منع التنظيمات المسلحة من تعزيز قدراتها أكثر من قدرات الدولة، لذلك فإن الهدف في أية مواجهة هو توجيه ضربة قاسية للقدرات العسكرية والبنى التحتية التي ترفد هذه القدرات. وهذه الضربة القاسية تحقق هدفين: الأول يتطلب الكثير من الوقت والموارد للترميم، والثاني يخدم هدف الردع ويدفع العدو للتفكير من جديد قبل أن يقوم بتنفيذ أي عمل يستفز إسرائيل. وفي بعض الحالات يمكن استخدام مصطلح “إجبار”، عندما تتسبب العملية الإسرائيلية بدفع الخصم إلى وقف القيام بتصرف معين مثل عمليات الإطلاق المتفرقة للصواريخ والرمايات ذات المسار المنحني باتجاه إسرائيل. وهذه الإستراتيجية لـ “الصيانة” المتواصلة للعدو تحت مستوى معين لتعزيز قوته جرى وصفها بإستراتيجية “جز العشب” أي القيام بجولات متتالية من القتال كل عدة سنوات، وهي جولات لا تتطلب الحسم إلا أنها تتسبب بضرر كبير للعدو.

 

وعملياً فإن إستراتيجية القتال التي تتبنى فيها إسرائيل القيام بجولات عنيفة هي إستراتيجية استنزاف وخراب وتدمير ممنهج ومتدرج لثروات العدو، ولنظرياته الفكرية، ولآماله في المستقبل.

وفي مثل هذه العمليات، تواجه إسرائيل معضلة كبيرة يقف في جوهرها السؤال حول ما إذا كان يجب عليها في جولة القتال المحدودة أن تهاجم فوراً الثروات الثمينة والهامة جداً، بهدف استغلال الفرصة، عندما يكون معنى ذلك تصعيد المواجهة، أو أن تهاجم بدرجات تصعيد متصاعدة، وبذلك تلوّح للطرف الآخر بأن من مصلحته أن ينهي المواجهة، لكن ذلك يحدث من خلال المخاطرة بأن يتم تمويه قسم من الثروات الهامة أو أن يتم تغيير مكانها بحيث يصبح من غير الممكن استهدافها في مرحلة متأخرة. والحل يرتبط بالظروف وبالأهداف في كل حالة مفترضة. ومن غير الممكن، وليس مرغوباً أصلاً، أن تتم صياغة قواعد متشددة حول كيفية العمل، ذلك أن المرونة والتكيّف هما في صلب النظريات الإستراتيجية.

 

موجز

لقد قامت نظرية الأمن التقليدية بتقسيم كل أنواع التهديدات إلى نوعين: الأمن الأساسي والأمن الجاري. وعلى مستوى المعركة تم وضع حل لكل واحد من هذين النوعين. وعلى المستوى الإستراتيجي والإستراتيجي الشامل، وبسبب غياب التناظر البنيوي بين الأطراف وعدم قدرة إسرائيل على تحقيق الحسم بهذا المستوى، فقد تم الاستناد في إدارة المواجهة على فكرة الاستنزاف. والهدف الأساسي لإسرائيل من استخدام القوة في كل جولات العنف هو تحقيق الردع، الذي يزيد من المسافات الزمنية بين جولة وأخرى ويفسح المجال أمام عجلة التنمية في الدولة إلى أن يحين الحل السياسي المأمول (وذلك بما ينسجم مع فكرة الردع المتراكم أو “الجدار الحديدي” التي وضعها جابوتينسكي).

إن الإستراتيجية الأساسية للجيش الإسرائيلي هي، في أساسها، إستراتيجية استنزاف وذلك لأنه كان يسعى دائماً إلى حسم المعركة خلال عدد محدود من العمليات الكبيرة (الحروب): علمية “قاديش” وحرب الأيام الستة وحرب يوم الغفران وعملية “سلامة الجليل”.

وحتى نهاية الثمانينيات لم يُنظر أبداً إلى مصطلح “الحسم” بوصفه ممكناً بما يتجاوز مستوى إدارة المعركة. ومثلما كان ابن غوريون قد قال من قبل – بعد كل معركة ننتصر فيها يستطيع العرب الانتعاش من جديد والبدء بمعركة أخرى. وخلال العقود الثلاثة الأخيرة، وبموازاة تراجع تهديد جيوش الدول على إسرائيل، تصاعد وازداد وزن التنظيمات المسلحة (المدعومة من قبل دول) التي تدمج بين حرب العصابات وبين القدرات التي تمتلكها الدول على مستوى عالٍ، وهي تشكل تهديداً جديداً والذي كنا قد اسميناه هنا “تهديد بوتيرة متوسطة”. ويتمثل أساس هذا التهديد بالاستخدام المتزايد للأسلحة ذات المسار المنحني باتجاه المراكز السكانية والثروات الإستراتيجية، والذي تحول إلى تهديد أكبر بكثير يتجاوز تهديدات الأمن الجاري، على الرغم من أنه لا يزال أدنى من تهديد دخول جيش لدولة ما[13]. وفي مواجهة هذه التهديدات يجب الاستعداد عن طريق بناء القوة وتحديث إستراتيجية استخدامها.

وبما يشبه “الأمن الجاري” في الماضي، هناك اليوم مواجهة متواصلة بوتيرة منخفضة تسمى “المعركة بين الحروب”، إلى جانب جولات قصيرة، والتي يحدث فيها ارتفاع حاد في العنف. إلا أنه على خلاف الماضي فإن إسرائيل تتبنى، سواء كان ذلك بسبب خصائص العدو أو بسبب القدرات الإسرائيلية في الاستخبارات والنيران الدقيقة، تتبنى خلال الجولة إستراتيجية “استنزاف” قدرات العدو. ويتم الحفاظ على الحسم على مستوى المعركة (بمفهومه كنتيجة) بوصفه خطوة تصعيدية أخرى لا يتم التعجيل باستخدامها بسبب المخاطر الكثيرة المرتبطة بها في الزمن الراهن. ولذلك هناك ضرورة إلى إضافة دعامات هامة أخرى تتعامل مع التصدي للتهديدات الجديدة.

وللإجمال فإن أسس نظرية الأمن ومفاهيمها تناسب جيداً عصرنا الراهن. إن العدو قد غير فعلاً أسلوب نشاطه العملياتي وطابعه (من دولة إلى تنظيم) لذلك هناك ضرورة لإضافة دعامات هامة تتعامل مع مواجهة التهديدات الجديدة. إلا أن الظروف الأساسية لم تتغير وكذلك أهداف الأطراف. ولذلك فإن النظرية التاريخية، بالإضافة إلى إدخال التعديلات المطلوبة (والهامة)، في الجانب العملياتي وفي بناء القوة تستطيع ان تخدمنا بشكل جيد في عصر العمليات المحدودة.

 

 

[1] حول تطور مفهوم الردع في نظرية الأمن الإسرائيلية والردع ضد التنظيمات الإرهابية وحرب العصابات كُتب الكثير خلال السنوات الأخيرة. انظر إلى أهم ما كتب: Doron Almog, “Cumulative Deterrence and the War on Terrorism,” Parameters 34, no. 4 (2004), pp. 4-19; Niccolò Petrelli, “Deterring Insurgents: Culture, Adaptation and the Evolution of Israeli Counterinsurgency, 1987-2005,” Journal of Strategic Studies 36, no. 5 (2013), pp. 666-691; Jonathan Shimshoni, Israel and Conventional Deterrence: Border Warfare from 1953 to 1970 (Ithaca, NY: Cornell University Press 1988); Thomas Rid, “Deterrence Beyond the State: The Israeli Experience,” Contemporary Security Policy 33, no.1 (2012), p. 126.

وفي اللغة العبرية أيضاً: أوري بار يوسيف، “خمسون عاماً من الردع الإسرائيلي: عِبَر الماضي واستخلاصات للمستقبل”، مجلة “معراخوت” 366 – 367 (1999)، صفحة 12-29. يوسي بادتس وديما ادمسكي، “تطور الإستراتيجية الإسرائيلية للردع – نقاش نقدي في جوانبها النظرية والعملية”، مجلة عشتونوت، العدد 8 (2014). تامير ييدعي وعيران اوتال “نموذج جولات الردع” – نموذج إستراتيجي وعقيدة في طريق مسدود”، مجلة عشتونوت، العدد 1 (2013). يوئيل غوجانسكي (محرر)، “دراسات في الردع”، مختصر اليوم البحثي، كلية الأمن القومي (تشرين الأول / أكتوبر 2008).

[2] من الصعب قياس “الوتيرة” بشكل دقيق، إلا أن بعض المتغيرات التي تحدد مستوى “الوتيرة” تشتمل على كم الموارد والقوات المخصصة للمعركة وتشارك فيها. وكذلك سرعة النشاط والأحداث والإصرار على الأهداف. وعلى أية حال يجب قياس ذلك على امتداد خط متواصل وبشكل نسبي بين الواحدة والأخرى. فعلى سبيل المثال، في عام 1973 حدد المصريون أهدافاً محدودة إلا أنهم وضعوا كل قوتهم العسكرية في خطة هجومية متداخلة في زمن قصير، ورد الإسرائيليون بوضع كل قوتهم في صد الهجوم ولذلك كانت وتيرة المواجهة مرتفعة. وفي بعض الأحيان يكون هناك لا تناظر بين الأطراف، ففي حرب فيتنام (1961 – 1975) حشدت فيتنام الشمالية كل سكانها وكل مواردها، وكانت (الحرب) تحتل موقعاً متقدماً في سلم الأولويات، بينما الولايات المتحدة الأمريكية، التي دفعت إلى المعركة بقسم من قواتها فقط، وجندت مواطنيها بشكل جزئي، فقد احتلت (الحرب) موقعاً متدنٍ في تسلسل أولوياتها.

[3] إسرائيل أيضاً تخلت مسبقاً عن إستراتيجية “القصف الإستراتيجي” وبنت قوتها الجوية بهدف تحقيق التفوق الجوي، والإعاقة، وتقديم الدعم القريب. وكانت هناك عدة حالات استثنائية من عمليات القصف الإستراتيجي، كان أبرزها خلال حرب الاستنزاف ضد مصر، إلا أنها، كما سبق القول، كانت خروجاً على القاعدة.

[4] هناك الكثير من النماذج التاريخية المشابهة لهذه الحالة. فخلال حرب المائة عام بين إنكلترا وفرنسا (1337 – 1453) حقق كل من الطرفين انتصارات حاسمة في ميدان المعركة، إلا أنه لم يكن بوسع أي منهما هزيمة الطرف الآخر بشكل كامل ومنعه من إعادة بناء جيشه من جديد والاستمرار في المواجهة. وأحد أكبر الانتصارات المعروفة ذات مرة تم تحقيقه من قبل القائد القرطاجي حنبعل الذي تمكن في معركة كناي (عام 216 قبل الميلاد) من تدمير الجيش الروماني بشكل كامل، إلا أنه لم يكن قادراً على احتلال مدينة روما. وقد أعاد الروم بناء جيشهم من جديد، وبعد مرور عدة سنوات استطاعوا هزيمة القرطاج في معركة زامة (عام 202 قبل الميلاد).

[5] نقاش موسع حول المفهومين (Preventive War و Preemptive Strike) يمكن أن نجده في: Lawrence Freedman, Deterrence (Cambridge UK: Polity Press, 2006), pp. 85-90.

[6] انظر: Frank G. Hoffman, “‘Hybrid Threats’: Neither Omnipotent nor Unbeatable”, Orbis 54, no. 3 (2010), pp. 441-455; David E Johnson, “Hard Fighting: Israel in Lebanon and Gaza,” (Santa Monica, CA: RAND Arroyo Center, 2011), pp. xxi, xxii.

[7] انظر: Christopher O Bowers, “Identifying Emerging Hybrid Adversaries”, Parameters 42, no. 1 (2012): pp. 39-50 .

[8] يمكن الحصول على استعراض واسع حول خصائص العدو وحول التهديد الإستراتيجي الذي تشكله الأسلحة ذات المسار المنحني في مقالات هليل فريش وعوزي رابين.

[9] النقاش حول مفهوم الحسم وحول مدلولاته النظرية والتاريخية يستند إلى عيدو هيخت، “آليات الهزيمة – كيف ننتصر في الحرب؟”، مجلة زركور، العدد 11 (2014)، صفحة 2. وتستند كذلك إلى عيدو هيخت، “مفاهيم أساسية في الجيش والحرب”، ورقة لم تُنشر، (2012)، صفحة 77 – 80.

[10] هانس دلبروك، مفكر عسكري ألماني (1848 – 1929). تجدر الإشارة هنا إلى أن دلبروك قد أثار ضده المؤسسة العسكرية البروسية وذلك لأنه قال إن فريدريك العظيم أدار حرب استنزاف على المستوى الإستراتيجي وليست حرب إبادة (أي حسم). وبذلك كشف عن عدم قدرة طبقة الضباط على التمييز بين مستوى المعركة والمستوى الإستراتيجي.

[11] انظر ورقة موني حوريف حول خصائص عمليات التنظيمات.

[12] تم بحث هذه الفكرة بشكل موسع في الجيش الإسرائيلي، وهي قد وجدت تعبيراً عنها في عدد من المقالات في مجلة “معراخوت”، وكذلك في الأدبيات الأكاديمية. انظر على سبيل المثال : شاي شبتاي، “الحرب التي تلي الحرب القادمة: عصر المواجهات الطويلة”، مجلة “معراخوت”، العدد 420 (2011)، صفحة 4 – 10. المقدم ش، “الاستنزاف: إستراتيجية أخرى لتحقيق النصر”، مجلة ” معراخوت”، العدد 435 (2011)، صفحة 4 – 13. غور ليش، “على أعتاب نظرية أمن جديدة: نصر بدون حسم”، مجلة “معراخوت”، العدد 430 (2010)، صفحة 4 – 11. غابي سيبوني، “الحرب والنصر”، جيش وإستراتيجيا، العدد 3، (2009). وكذلك عرض أكاديمي حول مكون الاستنزاف في حروب إسرائيل انظر: Avi Kober, Israel’s Wars of Attrition. Attrition challenges to democratic states (New York: Routledge, 2009); Avi Kober, ”From Blitzkrieg to Attrition: Israel’s Attrition Strategy and Staying Power,” Small Wars & Insurgencies 16, no. 2 (2005), pp. 216-240 .

[13] انظر عوزي روبين، “من استفزاز إلى تهديد إستراتيجي، هجوم الصواريخ من غزة على جنوب دولة إسرائيل”، دراسات في أمن الشرق الأوسط 87. (رامات غان: مركز بيغن – السادات للدراسات الإستراتيجية، جامعة بار – إيلان، 2011).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى