التجزئة والتقسيم وصيرورة المشروع الصهيوني..
د. محمد البحيصي رئيس جمعية الصداقة الفلسطينية - الإيرانية
على أنقاض حرب مدمّرة، وُصفت بالعالمية وهي بالأساس حرباً غربيّة ذاق العالم ويلاتها من أجل بناء تراتبية جديدة لميزان القوى في هذا العالم الغابة الذي تتحكّم فيه الوحوش المفترسة (القوى العظمى)، وإعادة اقتسام مزايا الهيمنة على العالم، ولا سيّما أنّ الشكل القديم للاستعمار –المسمّى انتداباً- بات قاصراً عن تلبية الطموحات الغربية في الابتزاز والاستغلال واستعباد الشعوب، فكان لا بدّ من نهج جديد يؤمّن للغرب هيمنته، وأشدّ البلاد التي استهدفها هذا النهج الاستكباري الجديد كانت بلادنا فلسطين التي كانت الميدان التجريبي للمشروع الصهيوني المستهدف لكل أقطار الأمّة العربية والإسلامية، حيث ورثت منظمة (الأمم المتحدة) عصبة الأمم بكل أوزارها وظلمها وحيفها على الشعب الفلسطيني من خلال الانتداب الذي أقامته على فلسطين وأودعته صكّاً “وعد بلفور” صادرت بموجبه حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية في أرضه، والمصيبة هنا هي الموقف العربي حينذاك المتناغم والمنسجم مع الموقف الصهيوني اليهودي والموقف الصهيوني البريطاني الأمريكي (الغربي).
لقد سارت الأمم المتحدة على خطا عصبة الأمم في مصادرة حق الشعب الفلسطيني وفي تثبيت حدود التجزئة التي صاغها (سايكس-بيكو) والتي جاء وعد بلفور ثمرةً لها، وأعقبه قرار تقسيم فلسطين كثمرةٍ ثانية ..
وهكذا إلى يومنا هذا، كل القرارات المجحفة بحق فلسطين وشعبها، وسائر المنطقة كان منطلقاً من حدود (سايكس – بيكو)، واليوم فإنّنا نعيش امتدادات كارثة التجزئة حيث شهدنا في السنوات العشر الأخيرة كيف يسعى الاستكبار لتجزئة المجزّأ وتقسيم المقسّم في بلادنا وكل ذلك كرمى لعيون “إسرائيل”..
أيُّ ظلمٍ وقع على فلسطين حين خضعت لقرار التقسيم الذي أقرّته الأمم المتحدة في 29/11/1947 بأغلبية ثلاثة أصوات فقط، وتركت شعباً أصيلاً في هذه الأرض شريداً طريداً مقتولاً، وأقامت محلّه غرباء لا يمتّون للمكان بصلة، بقدر ما هم أداة في يد الغرب المجرم تحافظ على هيمنته ومصالحه اللا مشروعة..
لقد ذهبت في هذه الافتتاحية إلى القراءة التاريخية رغم ضيق المساحة، لا لشيء إلّا لأصل إلى الاستنتاج الذي يغفل عنه الكثيرون، أو لا يرغب الكثيرون في الاستماع إليه، وهو أنّ (المشروع الصهيوني) بحوامله الغربية، وهو ذاته منذ نشأته، لم يحد أو يتخلّى عن صيرورته التي تم التخطيط لها منذ كان فكرة، وكلّ متغيّر في حركة هذا المشروع لا يكون إلّا منسجماً مع الثوابت التي لأجلها أُنشئ ولا بأس في ممارسة الخداع في هذا المتغيّر إذ الحرب خدعة.. وما يدعو إلى الدهشة والاستهجان هو أنّنا نسمع ونرى مراحل وأطوار هذا المشروع دون أن تستوقفنا معطيات ونتائج ومظاهر وجوده في بلادنا، ولا نستوعب العبرة ولا دروس التاريخ ممّا يمكّن لهذا المشروع في بلادنا ويمدّ في عمره، رغم زراعته الاصطناعية القسريّة، وحمله لكل عناصر الاندثار واللفظ من جسم المنطقة إذا ما استعادت مناعتها وقدرتها الحيوية وبالأحرى استعادة هويّتها…