مقالات وآراء

البحر الأبيض المتوسط وفرص إضعاف الحصار على لبنان وغزَّة

رغم دخول الحروب العصرية مرحلة “حروب الجيل الخامس”، بحسب تقديرات البعض، والحديث المتزايد عن دور الذكاء

الاصطناعي في حروب المستقبل، بما يوحي أحياناً بأنَّ الحرب باتت مختلفة في الجوهر عن حروب الحقب الماضية، فإنَّ واقع

الحال يشير إلى عدم تبدُّل الأهداف الإستراتيجية للنزاعات الدولية كثيراً، فتأمين مصادر الطاقة والسيطرة على ممرات النقل،

لا سيما البحرية منها، ما زال يؤدي دوراً حاسماً في صعود القوى الدولية وهبوطها.

لذلك، خلال المرحلة الدولية الراهنة التي يتم فيها رسم معالم نظام عالمي جديد، ويترتب على نتيجة مسار الأحداث فيها

صعود حضارات وهبوط أخرى، نجد أنَّ القوى الدولية الكبرى، وتلك الإقليمية الفاعلة، تولي عملية التحكّم في المضائق

والممرات المائية الحيوية اهتماماً خاصاً، كمضيقي هرمز وباب المندب، وبحري آزوف والأبيض المتوسط، ولا يبدو أنَّ تبدُّلاً

حقيقياً سيطرأ على هذه الأهداف الإستراتيجية للنزاعات الدوليَّة قبل أن تصل الحضارة الإنسانية إلى مستوى “النوع الأول”

من الحضارات على “مقياس كارداشيف لتصنيف الحضارات”، وقبل أن تقطع شوطاً معتبراً فيه على أقل تقدير، وذلك لن يتحقق إلا لقرون قادمة.

من هنا، نلحظ أن خيار تطوير القدرات الهجومية العسكرية البحرية التي أولتها دول “محور المقاومة” وحركاته اهتماماً ملموساً

في السنوات الأخيرة ضمن تكتيكاتها القتالية بات يعطي مفاعيله في عمليات رسم معادلات الحرب وتحقيق المكاسب الميدانية.

اقرأ المزيد: خمسون عاماً على استشهاد الأديب وائل زعيتر

وقد تجلى ذلك في عدَّة محطات مهمة خلال الأعوام الماضية. مثلاً، كانت قدرات إيران العسكرية البحرية قد شكَّلت إحدى

وسائل الردع الفعَّالة التي اعتمدتها في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، لثنيها عن الإقدام على عدوان عسكري عليها،

إذ كان باستطاعة إيران في تلك الحالة تعطيل حركة الملاحة عبر مضيق هرمز؛ ذلك الممر المائي الحيوي الذي يمر عبره ما

يزيد على 20% من صادرات موارد الطاقة الأحفورية في العالم.

وفي محطة مهمة أخرى، نجد أنَّ التنافس على السيطرة على مضيق “باب المندب” يعد واحداً من الخلفيات الرئيسة للحرب

التي تشنها السعودية على اليمن. لذلك، كان من ضمن إستراتيجية صنعاء العسكرية تطوير قدرات بحرية هجومية مؤثرة يمكن

الاعتماد عليها في التأثير في حركة الملاحة البحرية في باب المندب والبحر الأحمر.

أما في لبنان، وفي محطة ترسيم الحدود البحرية مع العدو، وسعي الدولة اللبنانية لفرض حقّها في استخراج الغاز الطبيعي

من حقول شرقي المتوسط واستثماره، نجد أنَّ قدرات حزب الله البحرية الهجومية كان لها الدور الحاسم في حصول الدولة

اللبنانية على مسودة تفاهم حول ترسيم الحدود البحرية مع العدو، وحول حقّه في استخراج موارده الغازية واستثمارها،

بصرف النظر عن الجدل القائم حول إذا ما كانت تلك المسودة قد أعطت للبنان كامل حقوقه.

اقرأ أيضاً: أبرز عناوين الصحف العبرية الصادرة اليوم الأحد

ما يهم في هذا المقام، بعيداً من النقاش الدائر حول خطوط الترسيم البحرية اللبنانية: الخط 29، والخط 23، وخط “فريدريك

هوف”، والخط “الإسرائيلي” رقم 1 البري، بعيداً من هذا النقاش، على أهميته ووجاهته، يبقى واقع الحال أن الكيان الموقّت

ما كان ليعطي لبنان أياً من حقوقه لولا تلويح حزب الله بقدراته البحرية العسكرية.

ولولا إمكانات حزب الله البحرية العسكرية تلك، القادرة على استهداف مصادر استخراج الطاقة في شرقي المتوسط، والقادرة

على عرقلة حركة نقل الطاقة عبر البحر الأبيض المتوسط أيضاً، ما كان الأميركي في وارد السماح للبنان بالاستفادة من ثرواته

من الغاز الطبيعي، بما يتضمَّنه ذلك من ضرب لأساسات سياسة الحصار غير المعلن التي ينتهجها الأميركي ضد لبنان منذ حين.

إذاً، بناءً على الوقائع السالفة الذكر، يمكن أن نخلص إلى أنَّ الجهد الذي صرفته دول وحركات المقاومة على تعزيز قدراتها

البحرية العسكرية وحسن توظيف تلك القدرات تكتيكياً في الميدان أثمر نتائج ملموسةً في مصلحتها، وحقّق لها مكاسب

ميدانيةً وسياسيةً، ولا سيما في الحالة اللبنانية. وبناءً على هذه الخلاصة، يبرز تساؤلٌ عما إذا كان من الممكن لفصائل المقاومة الفلسطينية الاستفادة من هذه التجارب في فك الحصار المفروض على غزة.

بدايةً، من المعلوم أن عمليات الإعداد وتطوير القدرات التسليحية للقوى العسكرية لا تكون بطريقة اعتباطية، بل تكون استجابةً

للإستراتيجيات والتكتيكات العسكرية المرسومة، وضمن الإمكانات المتاحة وظروف الميدان؛ فمن خلال تتبع مسيرة دول “محور

المقاومة” وحركاتها نجد أنها عملت منذ البدايات على توظيف سلاح “صواريخ أرض أرض” بطريقة مميزة، بهدف التغلب على

معضلة التفوق الجوي الكاسح لمصلحة العدو. وقد كان ذلك ضمن إستراتيجية “الحرب غير المتكافئة” الشاملة التي اعتمدتها

قوى المقاومة في مواجهة الأعداء عموماً.

وقد تم تعميم تجربة “صواريخ أرض أرض” بعد نجاحها في جنوب لبنان إبان الاحتلال الإسرائيلي، فصارت إيران بعد ذلك من أكبر القوى الإقليمية من ناحية قدراتها الصاروخية، وباتت فصائل المقاومة الفلسطينية في غزَّة تتمتع بقدرة صاروخية يحسب لها الحساب، إذ استنسخت تكتيكات إطلاق الصواريخ من منصات مخفية وتحت الأرض.

وعقب حرب لبنان في تموز/يوليو 2006، التي اختبر فيها حزب الله بنجاح باهر تكتيكات ميدانية ضد سلاح المدرّعات الإسرائيلي، وذلك باستخدام سلاح “كورنيت” الروسي المضاد للدروع، اتخذ قائد حرس الثورة الإسلامية آنذاك، الشهيد اللواء قاسم سليماني، قراراً بنقل تلك التجربة إلى فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة، بالتعاون مع كل من حزب الله والدولة السورية التي زودت القطاع بهذا النوع من السلاح من مخزون الجيش العربي السوري في ذلك الوقت. وقد كان لتكتيك استخدام سلاح “كورنيت” في القطاع دورٌ أساسيٌ في تحديد نتائج حروب غزَّة اللاحقة.

المزيد: أسير من جنين يدخل عامه الـ18 في سجون الاحتلال

أما راهناً، وفي ظلِّ التوتر الدولي القائم حول الطاقة، وحول الممرات البحرية لنقلها، وارتفاع أهمية أسلحة البحر الهجومية بناءً على ذلك التوتر، ربما بات من المجدي أن تبدأ فصائل المقاومة الفلسطينيّة، وبالتعاون مع أركان “محور المقاومة”، بتسخير الموارد من أجل تعزيز قدرات القطاع البحرية العسكريّة، سواء بالعتاد المطلوب أو بالتقنيات اللازمة لتصنيع العتاد المناسب؛ فإذا كان “محور المقاومة” قد نجح في هذه العملية في اليمن، فلا بد من وجود إمكانية لتكرار الأمر في غزة.

ويدور الحديث هنا بالنسبة إلى غزَّة عن خطة متوسطة المدى أو قصيرة المدى في أفضل الأحوال، بحسب ظروف الميدان، إلا إذا كانت غزَّة قد تسلَّحت بالفعل على هذا الصعيد، مع العلم بأن لا مؤشرات تدل على هذا الأمر.

في كلِّ الأحوال، لا يجوز إهمال أمرين مفصليين عند التفكير في تكتيك استخدام البحر كوسيلة لتخفيف الحصار عن غزة، قياساً على تجربة حزب الله الأخيرة في لبنان. أولاً، لا يجوز بحال تجاهل حقيقة أنَّ حساب “موازين القوى” يختلف إلى حد بعيد من عدة أوجه بين الساحتين اللبنانية والفلسطينية.

لا ينسحب هذا على صعيد قدرة حزب الله التسليحية المتفوقة نوعاً وكماً فحسب، والفروق في طبيعة الميدان التي تتيح للحزب هامشاً أعظم في المناورة، واستفادة الحزب من خطوط إمداد فعالة، لكن أيضاً يجب أن يوضع بالاعتبار، عند حساب “موازين القوى”، حساسية ساحة فلسطين بالنسبة إلى الاحتلال مقارنةً بأي ساحة “معادية” أخرى، فسقف المعادلات التي يمكن إرغام الإسرائيلي على تجرُّعها من دون الدخول في جولة حرب قاسية يعد أعلى من السقف الذي يمكنه قبوله في فلسطين من دون الدخول في حرب يكون من شأنها تبديل التوازنات القائمة بصورة جوهرية.

وبناءً عليه، يمكن القول إنَّ المراهنة على السلاح البحري الهجومي وحده تعد مراهنةً واقعيةً، إذا ما كان الهدف هو تخفيف الحصار، لا إنهاءه بشكل كلِّي عن القطاع، مع أنَّ تخفيف الحصار، الذي يمكن لفصائل المقاومة في غزَّة تحقيقه في هذه الحال، وضمن الظروف الإقليمية والدولية الراهنة، قابلٌ لأن يكون تخفيفاً حقيقياً وذا آثار ملموسة على حياة سكان القطاع.

أما الأمر الثاني، فهو أنه لا يجوز بأي حال أن يتحول تكتيك تطوير السلاح البحري الهجومي في غزَّة إلى بديل من تكتيك المقاومة في تفعيل العمل المقاوم في الضفة، فساحة الضفة لا تزال تحظى بموقع الصدارة من الناحية الإستراتيجية في مشروع التحرير المركزي، ناهيك بأنه ضمن ظروف العدو الموضوعية المستجدة، وضمن تراجع القبضة الأمنية لسلطة “التنسيق الأمني” في رام الله، إضافة إلى الظروف الإقليمية والدولية الراهنة المحيطة، بات من الممكن لساحة الضفة تحقيق إنجاز يفوق بكثير أي إنجاز يمكن لساحة غزَّة تحقيقه على مستوى المشروع الوطني.

ختاماً، يفتح الاشتباك العالمي الدائر بين الدول العظمى آفاقاً جديدةً أمام فصائل المقاومة الفلسطينية، بما يجعل فرص تخفيف مفاعيل الحصار المفروض على غزَّة بصورة ملموسة أكثر واقعيةً، وذلك عبر المناورة على عقدة الطاقة والممرات المائية، لكن يبقى إنهاء الحصار عن غزَّة بصورة كلية أمراً يلزمه تغيير في “موازين القوى” الحاكمة حالياً، والطريق الأقصر لذلك، والأكثر جدوى وطنياً وإستراتيجياً، يمر عبر تصعيد الفعل المقاوم في الضفة، وتحويل المقاومة فيها إلى حال يحاكي مقاومة غزة، وهذا بات أمراً متاحاً ضمن المستجدات الفلسطينية والإقليمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى