مقالات وآراء

الانروا… كي لا يموت الشاهد التاريخي

علي بدوان – طريق القدس

لأولِ مرةٍ منذ تأسيس وكالة (أونروا) لإغاثةِ وتشغيلِ اللاجئين الفلسطينيين عام 1949، يجرؤ مسؤول “إسرائيلي”، وينادي علناً بتفكيك الوكالة، وحلِّها، وإحالتها على التقاعد. فرئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو، يدعو وبكلِ وضوحٍ وصراحةٍ لإنهاء عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في مسعى منه لقتل الشاهد التاريخي على نكبة فلسطين، والشاهد الأممي على مأساة التهجير والترانسفير والتطهير العرقي التي وقعت عام 1948 على أرض فلسطين التاريخية. حيث تُعتبر وكالة (أونروا) الجهة الدولية الحافظة لسجلات اللاجئين الفلسطينيين وأجيالهم، وتفاصيل ووقائع نكبتهم منذ لحظاتها الأولى وحتى الآن.

الموقف إياه، الذي أطلقه نتنياهو، ينسجم مع الأهداف “الإسرائيلية” القديمة/الجديدة التي ترى في استمرار عمل ورسالة وكالة (أونروا) عَقَبة يجب تجاوزها في إطار إنهاء وطمس قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم بالعودة. فمساعي نتنياهو للتخلّص من المنظمة الدولية (أونروا)، تأتي في إطار جهودهِ لتمريرِ أيِ مشروعٍ سياسي يتجاوز قضية اللاجئين. فمطالبته بتفكيك وكالة (أونروا) تحمِلُ دلالاتٍ سياسيةٍ صارخةٍ، أبرزها أن “إسرائيل” ترى بوجود المنظمة الدولية (أونروا) تأكيداً على قضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم بالعودة. ومن المُستبعد أن تستجيب الأمم المتحدة لمطلب نتنياهو بتفكيك وكالة (أونروا).

ومن المعروف أن وكالة (أونروا) تأسست في 8 ديسمبر/كانون الأول 1949، بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302، بهدف إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، فيما بدأت عملياتها في الأول من شهر مايو/أيار عام 1950 . وأن مطلب نتنياهو لإنهاء عمل وكالة (أونروا) يتعارض أصلاً مع عضوية “إسرائيل” المشروطة في الأمم المتحدة، حين تم قبول عضويتها عام 1948، مشروطة بعدم الإعتراض على القرار 194 القاضي بحق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة الى مواطنهم الأصلية على أرض فلسطين، وهو القرار المُرتبط بدوره باستمرار عمل الوكالة في مجتمع اللاجئين الفلسطينيين في الداخل والشتات (سوريا + الأردن + لبنان).

كما يُعتبر مطلب نتنياهو بإنهاء عمل وكالة (أونروا)، تجاوزاً لرغبة وإرادة المجتمع الدولي الذي يُجدد بشكلٍ سنوي تفويضه للأونروا، رابطاً مسألة إنهاء عمل وكالة الغوث (الأونروا) ووقف خدماتها بانتهاء السبب الذي أنشأت لأجله عام ١٩٤٩ وهو حل قضية اللاجئين الفلسطينيين وعودتهم الى ديارهم وممتلكاتهم، وتطبيق القرار الأممي الخاص بهم، الرقم 194.

لقد لَعِبَت وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين العرب في الشرق الأدنى (أونروا)، والتابعة لهيئة الأمم المتحدة، ومنذ تأسيسها عام 1949، دوراً تاريخياً لا يُمكن القفز عنه أو تجاوزه كشاهد حي على نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948. فالوكالة تُعتبر وفقاً للقانون الدولي، ومن الناحية القانونية ترسيماً واقراراً من المجتمع الدولي باغتصاب فلسطين وتشريد غالبية سكانها ومواطنيها، وإسناداً دامغاً لرواية النكبة على حقيقتها في مواجهة الأكذوبة الصهيونية الكبرى ورواية الطرف الأخر التي قالت بأن “فلسطين أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض”.

لقد واجهت الوكالة خلال العقود الثلاثة الأخيرة من عمرها، وتحديداً منذ بدايات تسعينيات القرن الماضي، وانطلاقِ عمليةِ التسويةِ المأزومةِ، واجهت مصاعب كبيرة في أدائها لعملها نتيجة التراجع في مداخيل الدعم الدولي المُقدم لها في ظل ازدياد حاجات مُجتمع اللاجئين الفلسطينيين، وازدياد أعدادهم، وتعرضهم لنكباتٍ مُتتالية كان أخرها نكبة اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، وهو ما دفع بالوكالة لإطلاق نداءات الطوارئ والاستغاثة للمجتمع الدولي من أجل دفعه للسخاء في التبرع المالي والعيني لها. كما واجهت ومازالت تواجه محاولاتٍ مُستميتةٍ من الطرفين الأمريكي و “الإسرائيلي” من أجل إنهاءِ مهام عملها، وبالتالي القضاء عليها كشاهد حي على نكبة فلسطين، ووأد حق العودة للاجئي فلسطين.

في هذا السياق، كان المفوض العام للوكالة (بيير كريهنبول) قد خاطب اللجنة الاستشارية للدول المضيفة والجامعة العربية، في اجتماعاتها الأخيرة، مُشيراً إلى أن وضع (5.3) مليون لاجئ فلسطيني أسوأ من أي وقتٍ سبق منذ عام 1948، وقال: “إن أعوام النكبة المديدة، وخمسين عام من الاحتلال عام 1967، وعشر أعوام من الحصار في فلسطين محفورة في أذهان وهوية مجتمع اللاجئين الفلسطينيين”. وأضاف المفوض العام للوكالة “أن الجيل الصغير من اللاجئين الفلسطينيين يفقدون الأمل في السياسة والدبلوماسية”. وفي خطابه ركّز على المشاكل المالية الحالية والمستمرة في (أونروا) والتي لا تسمح بفتح برامج جديدة، ولكن فقط التركيز على إدارة الأزمة وذلك سنة بعد سنة، واختتم خطابه “لم يَشعُر اللاجئون الفلسطينيون مُطلقاً بهذا الكم من العزلة، وعدم الراحة واليأس من قبل، هناك حاجة أكثر من أي وقتٍ مضى إلى حماية أملهم ومهاراتهم”.

كما خاطب المفوض العام للوكالة (بيير كريهنبول) اجتماعا للجامعة العربية عُقِدَ للشأن ذاته، ودعا إلى تقديم الدعم المالي والسياسي للوكالة، ومكرراً التأكيد أن وكالة الــ (أونروا) “شاهدٌ على الظُلم التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين اللاجئين، ولديها المسؤولية لدق ناقوس الخطر باسم مجتمع اللاجئين الفلسطينيين الذي يغرق إلى الهاوية وعلى مرآى من أنظارنا”.

إن مساهمات الوكالة في رعاية حياة اللاجئين الفلسطينيين من ناحية خدمات الصحة، والتعليم، والإغاثة الاجتماعية في سوريا ولبنان والأردن والضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، ترافقت مع دور الوكالة في حفظ وثائق سيرة لاجئي فلسطين، حيث عملت الوكالة ومنذ تأسيسها، على إنتاج وتجميع أرشيف من الأفلام والصور تُغطي معظم جوانب حياة وتاريخ لاجئي فلسطين. فأرشيف الوكالة يقدم صورة بانورامية حية عن أوضاع مجتمع اللاجئين الفلسطينيين منذ النكبة الكبرى عام 1948 وحتى الآن، ودور الوكالة، كما يُبيّن الحياة اليومية للاجئي فلسطين إلى جانب بعض الصور المميزة للفلسطينيين الذين تركوا بيوتهم في العام 1948 أثناء نكبتهم، ولتأسيس المخيمات في عقد الخمسينات والهجرة الثانية خلال عدوان عام 1967، وفترة الحرب الأهلية في لبنان، وفترات الاضطراب في النصف الثاني من عقد الثمانينات والقلاقل التي بدأت عام 2000، وصولاً لنكبة فلسطينيي سوريا، والتي فاقت كل تصور، ومازالت تُجرجر نفسها حتى الآن.

واليوم، إن الأرشيف الخاص بوكالة (أونروا) والذي يؤرخ ويوثق نكبة لاجئي فلسطين، يَضُمُ أكثر من (430,000) صورة سلبية وعشرة آلاف صورة مطبوعة، إلى جانب (60,000) شريحة عرض، وخمسة وسبعون فيلماً، وما مجموعه (730) شريط فيديو، أي ما يصل إلى أكثر من (500,000) أصل بالإجمال، وهو أرشيف ضخم بكل المقاييس.

وفي عام 2009، تم تسجيل الأرشيف الخاص بوكالة (أونروا) من قبل منظمة اليونسكو في سجل ذاكرة العالم، وهو ما يعني الاعتراف بقيمته التاريخية، وبالظلم الكبير الذي وقع على الشعب العربي الفلسطيني.

إن تلك الصور والأفلام والأرشيف والعائدة لوكالة (أونروا)، تُشَكِّلُ الشهادة الفريدة والتاريخية عن مرونة وصمود لاجئي فلسطين، واستمرار حياتهم وتحديهم لكل المصاعب بالرغم من كل المحاولات التي بذلتها الدولة العبرية الصهيونية ومن وراءها من أجل طمس هوية الشعب الفلسطيني.

كما تحافظ تلك الصور والوثائق التاريخية في الوقت نفسه، على الذاكرة الجمعية للاجئي فلسطين منذ عام 1948 وحتى اليوم. فقوة الوثائق الحية توضح قوة الصور المرئية والوثائق، والتي  لديها قدرة فريدة في إعادة الحياة للتاريخ كما هو دون لف أو تزوير أو لي لعنق الحقيقة.

في هذا السياق، أنهت وكالة (أونروا) مشروع الرقمنة لوثائقها، وأطلقت منصة أرشيف الوكالة للأفلام والصور على الشبكة العنكبوتية،  حيث تم مؤخراً وفي رام الله افتتاح معرض تم فيه عرض مختارات من الصور التي لم يتم نشرها سابقاً من أرشيف (أونروا) للأفلام والصور، بعد استكمال العمل في مشروع رقمنة مواد الأرشيف، واطلاق منصة الأرشيف على الشاشة العنكبوتية والتي سَتَشَكِلُ جزءاً كبيراً من الأرشيف المتاح لعامة الجمهور ولعامة الناس.

أخيراً، إن حماية الشاهد الأممي الحي على الظُلم التاريخي الذي وقع بحق الشعب العربي الفلسطيني، مسألة لا تقبل المناقشة، وعلى الحالة العربية الرسمية، والجهات الفلسطينية المعنية، الوقوف في وجه محاولات إنهاء عمل الوكالة، بل وتحفيز المجتمع الدولي على رفع مستويات دعمه المالي والعيني للوكالة، من أجل ضمان استمرارها في خدمة مجتمع اللاجئين الفلسطينيين الى حين عودتهم الى ارض وطنهم التاريخي وفقاً لقرار قيام الوكالة عام 1949.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى