مقالات وآراء

الأرض.. الهوية والوطن

إبراهيم أبو ليل – طريق القدس

الأرض، في الوعي السياسي الفلسطيني، مسألة وجودية يرتبط فيها التاريخ والمصير. وفلسطين الأرض، قضية وهوية في حياة الشعب الفلسطيني، وهي محور النضال الوطني الذي تعمّد بدماء آلاف الشهداء طيلة عقود الصراع مع الاستعمار الصهيوني. ذلك لأنها منذ البداية كانت مرتكزاً أساسياً للمشروع الصهيوني بوصفه مشروعاً استيطانياً إحلالياً، يهدف إلى الاستيلاء على الأرض من دون الشعب، واعتبارها «أرضاً خالية» وجلب اليهود إليها من كل أنحاء العالم لتوطينهم فيها بدلاً من أصحابها الأصليين، بالاعتماد على (الصندوق القومي اليهودي)، الذي أنشأته الحركة الصهيونية من أجل تهويد فلسطين واستملاك أراضيها، استناداً على الادعاءات الزائفة بأن لهم حقاً تاريخياً موروثاً فيها، وتحقيقاً لشعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». وانطلاقاً من هذه الأفكار فقد بدأ الاستيطان الصهيوني في فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، واتبع نموذج السيطرة على الأرض من خلال إقامة المستعمرات الزراعية، ثم توسع بإقامة عدد كبير من المستعمرات اليهودية القروية والحضرية التي ازداد عدد سكانها بشكل سريع وسيطروا على موارد الأرض. وشكل هذا التوسع الجغرافي والعددي للاستيطان المستمر والمتصل جغرافياً أساساً لتقسيم فلسطين عام 1947.

أقيم الكيان الصهيوني بقوة السلاح فوق أراضي وممتلكات الشعب الفلسطيني في القرى والمدن الفلسطينية التي احتلتها العصابات الصهيونية عام 1948، والتي بلغت مساحتها حوالي 80 في المئة من مساحة فلسطين، حيث احتلت العصابات الصهيونية /12/ مدينة و/512/ قرية فلسطينية هدموا منها/400/ قرية. وقد سعت المؤسسات الصهيونية لتهويد الأرض والتخلص من الفلسطينيين الذين صمدوا في أرضهم، بكل الوسائل والأساليب لجعلها قاعدة مستقرة للاستيطان ونقطة انطلاق آمنة للعدوان على الدول المجاورة بهدف الهيمنة على شعوب المنطقة. وقد تجلى ذلك في مخططات التهويد التي وضعتها سلطات الاحتلال الصهيوني بعد عام 1948 مباشرة، من أجل الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وإنشاء البلدات اليهودية على حساب القرى الفلسطينية التي دمرتها العصابات الصهيونية، بهدف محو التاريخ الفلسطيني وطمس الهوية الثقافية الفلسطينية. وقد أصدرت السلطات الصهيونية سلسلة من القوانين الصهيونية العنصرية التي تمكن المستوطن اليهودي من الحصول على أرض ليست له، من أجل تشريع الاحتلال وسرقة الأرض وترسيخ الاستيطان وحمايته، ومن هذه القوانين:

1- قانون «الأراضي البور» الذي صدر عن وزارة الزراعة الصهيونية، ويقضي بمصادرة الأراضي البور (غير المزروعة) التي لم تتم فلاحتها لمدة ستة أشهر، بحجة أن أصحابها لا يفلحونها أو أنها مهملة. وكان الحاكم العسكري يتعمّد منع الأهالي من دخول أراضيهم لمدة سنة فتتحول إلى أراضي مهملة، ثم يقوم وزير الزراعة الإسرائيلي بمنح صلاحية العمل في هذه الأراضي لإحدى المؤسسات الاستيطانية بحجة أنها «أراضي بور».

2- قانون «أملاك الغائبين» الذي صدر في 20/3/1950، ويقضي بمصادرة كل أرض غاب عنها مالكها وتحولت إلى أرض مهجورة، وذلك بعد أن تم طرد الأهالي من مدنهم وقراهم.

3- قانون «استملاك الأراضي» الذي صدر عام 1953، ويقضي بمصادرة كل أرض لم يكن بحوزة أصحابها قرار من وزير المالية الصهيوني، بحجة الأمن وضرورات الاستيطان.

4- قانون «مرور الزمن» الذي صدر عام 1956، ويقضي بضرورة إثبات ملكية الأرض من جديد. وهو مستمد من القانون العثماني للأراضي وقوانين الانتداب البريطاني، حيث تنص هذه القوانين على أن من عمل في الأرض عشر سنين يستطيع تسجيلها باسمه، أما القانون الإسرائيلي فقد رفع المدة إلى خمسين سنة، وبموجب ذلك أصبح لزاماً على الفلاح الفلسطيني أن يثبت أنه يعمل في أرضه منذ خمسين سنة!

وعلى الرغم من سياسة الاحتلال وإجراءاته الاستيطانية، فقد ظل الشعب الفلسطيني بصبره وإيمانه متمسكاً بهويته الوطنية، يقاوم الاحتلال ويتصدى لآلته العسكرية ويدافع عن حقوقه بعزيمة لا تلين، مؤكداً ارتباطه التاريخي بفلسطين وحضارتها. وقد جسد الشعب الفلسطيني وعيه لقضية الأرض – وفق قانون التحدي والاستجابة – من خلال تشبثه بأرضه ومقاومته للاستيطان، حيث خرج إلى الشوارع وساحات المواجهة بشكل تلقائي دون تخطيط في هبّات وانتفاضات متلاحقة للتصدي لقوة الاحتلال الصهيوني وآلته العسكرية، وأعطى فلسطين قيمتها وخصوصيتها جاعلاً (يوم الأرض) عنواناً للانتفاضات المتواصلة ضد الاحتلال الصهيوني، ورمزاً يعبر عن عمق انتماء الشعب بفلسطين وقوة ارتباطه التاريخي بها ووحدة مصيره، في مواجهة مخططات التهويد التي وضعتها سلطات الاحتلال الصهيوني. فقد حمل يوم الأرض معاني ودلالات كثيرة في تاريخ النضال الفلسطيني المعاصر وبشكل خاص في الأراضي المحتلة عام 1948، حيث هبّ فلسطينيو48 في الثلاثين من آذار 1976 ضد قرارات سلطات الاحتلال التي تقضي بمصادرة مساحات واسعة من مدن وقرى الجليل الفلسطيني، في إطار ما تسميه الدوائر الصهيونية بـ «مشروع تطوير الجليل» الذي عرف بـ «مشروع كينغ» باسم صاحبه (يسرائيل كنيغ) متصرف لواء الشمال، والذي يمتد من حدود لبنان إلى مرج ابن عامر. ويهدف هذا المشروع إلى توسيع الاستيطان الصهيوني في الأراضي التي تبرز فيها الكثافة السكانية العربية ويزيد فيها عدد الفلسطينيين على عدد اليهود، إضافة إلى تطبيق سياسة «الثواب والعقاب» بالنسبة لكل من يتكلم بصورة معادية للكيان الصهيوني. وتحتوي وثيقة كيننغ التي أقرت في 19/3/1976 على:

أ) الدعوة إلى تقليص عدد السكان العرب وزيادة عدد اليهود.
ب) الدعوة إلى وضع العراقيل أمام تعليم الطلاب العرب في المدارس العليا وتشجيع هجرتهم إلى الخارج.
ج) الدعوة إلى تقليص عدد العمال العرب في المشاريع وأن لا يزيد عددهم عن 20%..
د) زيادة الضرائب على العرب لإفقارهم.
ه) منع العرب من ممارسة حقوقهم السياسية.

لقد قاوم فلسطينيو 48 المخطط الاستيطاني الصهيوني، واستماتوا في حماية أراضيهم، حيث انطلقت المظاهرات الشعبية رفضاً للمشروع، فقامت شرطة الاحتلال بإطلاق الرصاص الحيّ على المتظاهرين السلميين واشتدت المعركة في القرى الثلاث القريبة: سخنين ودير حنا وعرابة، حيث سقط ستة شهداء في الجليل (رجا أبو ريا وخضر خلايلة وخديجة شواهنة وخير ياسين ومحسن طه ورأفت زهيري) وجُرح نحو 50 شخصاً، واعتُقل 300. وقد تميزت انتفاضة يوم الأرض بشموليتها لجميع قطاعات الشعب الفلسطيني، وامتدت على مساحة الأرض الفلسطينية في المثلث والجليل والضفة الغربية وقطاع غزة، حيث تجسدت ملحمة الصمود والنضال في أرقى صورها، من خلال تلاحم فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1967 مع فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 ووقوفهم في صف واحد لمواجهة العدوان الاستيطاني الصهيوني، مؤكدين وحدة الأرض الفلسطينية ووحدة الشعب الفلسطيني في جميع أماكن وجوده. لقد شكلت انتفاضة يوم الأرض 1976 تحدياً حقيقياً لسلطات الاحتلال الصهيوني، أجبرهم على التراجع عن المصادرة العلنية للأراضي العربية، وازداد الفلسطيني صلابة وتشبثاً بأرضه. وعلى الرغم من كل محاولات التهويد والتغييب والأسرلة وتذويب الهوية الوطنية والعربية، إلا أن فلسطينيي48 ظلوا شوكة في حلق الكيان الصهيوني وعقبة كأداء تحول دون تقدم مشروعه الاستيطاني. وظل يوم الأرض يوماً خالداً في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني، وينطوي على دلالة وطنية وثقافية عميقة، إذ لا يقتصر فهم ما جرى وما يجري في فلسطين منذ عام 1948 على أنه مقاومة لمخططات استيطان واستيلاء على مساحات من الأراضي فحسب، وإنما هو دفاع عن الأرض والهوية الوطنية في بعديها الجغرافي والتاريخي، كما أشار الكاتب الصهيوني «منوخ بنطوف» ذلك الحين إلى أن «القضية ليست قضية أراضٍ محددة، وإنما هي قضية وطن ورفض للوجود الصهيوني في فلسطين».

وهكذا، تمضي الأيام ويتجدد يوم الأرض، ولا تزال مأثرة الشعب الفلسطيني البطولية مستمرة في الدفاع عن الأرض وحماية مقدساتها، عاكسة نضوجاً سياسياً ووعياً مجتمعياً ووطنياً، في إطار الرد التلقائي والواعي على فعل العدو الإجرامي وعلى الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني من قبل احتلال استيطاني عنصري طال أمده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى