استراتيجية الجيش الإسرائيلي الجديدة: تحقيق “غايات سياسية” وليس احتلال الأراضي
للمرة الأولى في تاريخ الجيش الإسرائيلي أمر رئيس الأركان الجنرال غادي آيزنكوت بنشر وثيقة “استراتيجية الجيش الإسرائيلي” التي تعرض التغييرات المطلوبة في الجيش لمواجهة التحديات المستقبلية، والتغييرات في خصائص العدو. وتضمنت الوثيقة ليس فقط تعداد الأخطار المحيطة بالدولة العبرية، وإنما أيضا سبل تعزيز فعالية القدرات العملياتية للجيش الإسرائيلي. وخلافا للمرات السابقة التي كان يتم فيها تسريب بعض بنود الوثيقة، فإن إعلانها بهذا الشكل يعتبر في نظر البعض نوعا من رد هيئة الأركان على تقرير “لوكر” المتصل بالميزانية وإدارة الجيش.
وبداية لا بد من القول إن الوثيقة التي نشرت في 33 صفحة هي في الحقيقة جزء من وثيقة أكبر لا تزال محتوياتها تصنف بالغة السرية. وترسم الوثيقة المنشورة رؤية رئيس الأركان الحالي وهيئة أركانه لسبل الرد على المخاطر المحددة. ولاحظ بعض المعلقين أن الوثيقة الجديدة لا ترقى لمستوى اعتبارها نظرية أمن قومي جديدة، لكنها في ظل غياب نظرية أمن تناسب التطورات على الأرض توفر هذه الوثيقة ردودا على المستجدات.
وعرض آيزنكوت الوثيقة على كل من هيئة الأركان والمستوى السياسي، بوصفها محاولة لترسيم نظرية شاملة لتفعيل القوات واستخدامها في كل الجبهات، وعلى أمل أن تقوم كل قيادة جبهة بمراجعتها وتكوين نظرية قتالها الخاصة في المستويات الأدنى. وركزت الوثيقة على أن نجاح توصياتها يكمن في تطبيق خطة “جدعون” المتعددة السنوات والتي يرى فيها كثيرون نقيضا لخطة “لوكر” التي رفضها الجيش.
وتصنف الوثيقة المخاطر التي تواجهها الدولة العبرية من إيران، لبنان وسوريا و “حزب الله” و “حماس”، والمنظمات الأخرى غير المرتبطة بجهة جغرافية مثل منظمات الجهاد العالمي وتنظيم “داعش” وما شابه.
وعلى صعيد تفعيل القوات، تقر الوثيقة مبادئ الردع، الإنذار، الدفاع، الحسم وتحقيق النصر. وتحدد الوثيقة سلم القيادة والسيطرة في القتال من منطلق توفير الاستخدام الناجع لقدرات الجيش في كل من جبهات القتال. وتحوي الوثيقة أيضا المبادئ العامة لتفعيل القوات: غاية العملية العسكرية في أوضاع أداء الجيش، منظومات في حالات الطوارئ والحرب، قدرات وجهود أساسية في أوضاع القتال والطوارئ، الردع، ومعارك ما بين الحروب، وتوفير المشروعية وصيانتها،
واعتبر المعلق الأمني في “هآرتس”، أمير أورن أن الوثيقة هي في الواقع “عقيدة آيزنكوت” القتالية وأن كشفها للعلن يعني خضوع الجيش ليس فقط للمؤسسة السياسية، وإنما أيضا للمجتمع الإسرائيلي الذي ينتخب الكنيست التي تختار الحكومة. وهذا المجتمع يؤثر بمواقفه في الميزانية وفي العسكريين سواء المجندين أو الاحتياطيين. وتحدد الوثيقة ثلاثة مستويات قيادية: رئيس الأركان كقائد للجيش، الحكومة كقائدة لرئيس الأركان، والأمة كقائدة للحكومة. وهي تنص على وحدة القيادة داخل الجيش وعلى دعم لمتخذي القرارات “أثناء القتال لكل قائد تتوفر لديه القدرة والواجب على اتخاذ القرارات المختلفة ضمن التخطيط الأولي”.
وفي كل حال، فإن نظرية القتال الإسرائيلية بنيت حينما كانت المخاطر تقوم على أساس أن إسرائيل يمكن أن تتعرض لهجوم شامل من جانب كل أعدائها المحيطين بها. ولكن اليوم الحال يختلف، وفق أورن، حيث أن لإسرائيل سلاما مع مصر والأردن، وصارت سوريا في عديد “الدول الفاشلة، التي تتفكك”، فيما خرجت إيران في إجازة حتى العام 2025، ما يجعل أعداء إسرائيل الحاليين، وفق الاستراتيجية الجديدة، هم المنظمات الإسلامية التي ما دون دولة. وهذا يسري على “داعش”، لكنه يركز على “حزب الله” و “حماس”. ولذلك فإن السيناريو المركزي الذي يركز عليه الجيش الإسرائيلي حاليا هو محاربة هذه التنظيمات.
وفي هذا الإطار، ثمة تعديل في مفهوم النصر وتفسيره. فهو الآن يعني “تحقيق الغايات السياسية المقررة للمعركة، بشكل يقود إلى تحسين الوضع الأمني بعد المواجهة”، لكن تفصيل الإنجازات لم يعد يشمل تدمير “حزب الله” في لبنان أو “حماس” في غزة، أو سيطرة متواصلة على أراض تحتلها إسرائيل في هذه الجبهات.
والمفاهيم الأساسية في “استراتيجية الجيش الإسرائيلي” الجديدة هي التخلي عن عنجهية غير قابلة للتحقيق، والاحتفاظ بقوات تَلْزَمُ بالضرورة، والتمييز بين سلم أولويات فيه الضروري، والمهم، والجيد والذي لا حاجة له. ويرى آيزنكوت أن كلا من “حزب الله” و “حماس” قد يسعيان لاحتلال موطئ قدم رمزي، ولذلك، فإن هناك أهمية قصوى “لمنع العدو من تحقيق إنجاز إقليمي في نهاية المواجهة”؛ وهذا يعني أنه لن يكون هناك وقف إطلاق نار قبل طرد الغازي.
وتؤكد الوثيقة أن بناء القوة في الجيش الإسرائيلي سيركز على الأدوات “الأشد فتكا، وحركة وقدرة على البقاء”. ويتطلع الجيش لأن تكون “نسب التآكل متدنية عبر استخدام منظومات دفاع متطورة”. وتسمح النظرية الجديدة للقادة الميدانيين بالارتجال وتوفير الشروط لاتمام حركات برية تدفع الخصم إلى فقدان التوازن. ويريد آيزنكوت من الجيش في أيام المعارك الأولى أن يهاجم آلاف الأهداف ليركز بعدها على مئات الأهداف يوميا. وهدف حشد القوة الإسرائيلية في مواجهة الساحة اللبنانية هو “عشرات ألوف الأهداف” المخطط لها سلفا، والتي تنهال عليها القذائف خلال وقت قصير على شكل “ضربات نارية متعددة الأبعاد ودقيقة”. أما في غزة فإن هدف بناء القوة الإسرائيلية هو “ألوف الأهداف”.