الأخبارمقالات وآراء

أوسلو كارثة تضاهي النكبة والنكسة

عارف الآغا
“لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ًمن جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ًمنها تبرّع أن يكون مقبضا ً للفأس” – القائل مجهول
أجل لا تستطيع قطعة الفأس أن تنال من جذع الشجرة لولا ان غصنا منها تبرع ان يكون مقبضا لهذا الفأس
.إذاكان هذا القول صحيحا فان أتفاق أوسلو هو المقبض الذي ساهم في كارثة تفوق النكبة والنكسة. وهو ما يراه ماثلا أمام عيون من يبصرون ومن لا يريدون أن ا يبصرواأن القضية الفلسطينية تمر بأصعب مراحلها تماما كما يمر العالم العربي باخطر مراحل وجوده حيث يتماهى عربان الخليج ومن لف لفهم مع العدو الصهيوني المستمر في تهويد الأرض والاستيطان والقتل والاعتقال وكل أعمال البطش والإجرام على مرأى ومسمع العالم وبالتواطؤ الدولي والإقليمي لتصفية القضية الفلسطينية.
بدأت رحلة أوسلو في العام 1979 حين طلبت قيادة منظمة التحرير من الحكومة النرويجية التوسط للحوار مع الحومةالإسرائيلية . لكن الأخيرة رفضت هذا العرض . وبعد عقد من الزمن وفي ظل وهج الانتفاضة الأولى وجدت قيادة المنظمة الفرصة المناسبة لتطرح نفسها كجهة قادرة على إنقاذ الاحتلال من مأزقه مقابل عقد تسوية سياسية معها ( حلمها القديم) وبدأت تحاول فتح قنوات مع العدو مستخدمة ورقة الانتفاضة ومستغلة شعبية رئيس المنظمةالطاغية بين الجماهير الفلسطينية فوافقت حكومة الكيان على تلك المبادرة .
إن اتفاقيّة أوسلو التي وُقّعت في أيلول/ سبتمبر من العام 1993، تضاهي من حيث تأثيرها السياسي والفكري والمعرفي على الوعي الفردي والجمعي الفلسطيني وما عايشه وعاناه الشعب الفلسطيني من كوارث ونكبات في العامين 1948و1967. فقد أحدثت هذه الاتفاقية اختراقا عميقا في الوعي السياسي الفلسطيني شكل بنية تحتية فكرية على كافة الأصعدة لصياغة مفاهيم جديد للقضية الفلسطينية تختلف اختلافا تاما عن المفاهيم السابقة التي وان لم تتبدد بصورة تامة وظلت في إطار من الذكريات والعواطف وفقدت وظيفتها العملية ليحل محلها مفاهيم جديدة حول جغرافية فلسطين الذي بات معظمها إسرائيليا بحكم الاعتراف ” بحق إسرائيل في الوجود ” وبالتالي تغير جوهر القضية الفلسطينية وحتى معنى الفلسطيني فبات “الفلسطيني” هو الموجود في فلسطين لا المطرود منهاوتلاشت شرعية حق العودة . لذلك باتت قضيّته هي قضيّة الاستقلال في أرضه لا العودة إليها، وهذه مسألة دولة وليست مسألة وطن، مسألة كيانٍ سياسيّ، لا مسألة وجود إنساني. وتغير العالم بالنسبة لفلسطين . . لقد دخلنا عبر أوسلو منطقة مختلفة من المعرفة السياسيّة، واضطرت السياسة الفلسطينيّة إلى إعادة صياغة نفسها بما يتلاءم مع هذا العالم الجديد. وعليه، فإنّ التغيّر في الأجوبة لأسئلة “من هو الفلسطيني؟” و”ما هي جغرافيا فلسطين؟” و”ما هي قضيّة فلسطين؟” ينبع أصلاً من سؤال أهم: “ما هو العالم بالنسبة لفلسطين؟

كانت المقاومة ضد الصهيونيّة في فلسطين استمراراً طبيعياً لبدايات الحركة القوميّة العربيّة مطلع القرن العشرين. وظلّت، حتّى ثمانينيات القرن المنصرم (والانسحاب من بيروت تحديداً) تحوم في فلك المقاومة للامبرياليّة الغربيّة. وقد تحالفت، بشكلٍ طبيعيّ، مع اليسار الثوريّ في الوطن العربيّ، ومع حركات التحرر في أميركا اللاتينيّة، ومع التنظيمات الثوريّة في أوروبّا ومع الاتحاد السوفيتي والصين الشعبية . وكانت هزيمة العرب في النكبة، كما هزيمتهم في العام 1967 شكلاً من أشكال “الاستمراريّة” المنسجمة مع وجودهم في هذا الفلك السياسيّ.
بعدأوسلوتحوّلت فكرة “الاعتراف بمنظمة التحرير” إلى تسمية مرادفة لـ”اعتراف الدول الغربيّة بمنظمة التحرير”، وبالتالي التفاوض والتحاور معها، وهو ليس اعترافاً مجانياً إنما مشروطاً بالانضواء تحت المنظومة الدبلوماسية. وهو ما تطلّب، كقرارٍ استراتيجيّ، هيكلة منظمة التحرير على هذا الأساس.

على خلفية هذا التحول أصبحت عمليّة أوسلو تتويجاً لانسلاخ القضيّة الفلسطينيّة عن عمودها الفقريّ اليساريّ الكونيّ وقبولها الدخول في فلك الهيمنة الامبريالية والليبرالية التامّة . وهذا ما دفع الفلسطينيين الى خلق الذرائع لتبرير هذا التحول وبالتالي إلى إعادة صياغة جميع المفاهيم السياسيّة والفكريّة، وإخضاعها جميعها إلى المنطق المسمّى بـ”الشرعيّة الدوليّة”، وبالتالي التسليم بروايةٍ تاريخيّة تبدأ من الصراع في العام 1967، وتعترف بشكلٍ أو بآخر بحق اليهود في تقرير مصيرهم على أرض فلسطين، فتُعيد تعريف اصطلاح “المناطق المحتلّة” وبالتالي تصيغ الهويّة الفلسطينيّة. وإن لم يكن ذلك كافياً، فقد أعاد أوسلو أيضاً تعريف “العدو” بالنسبة للفلسطيني، فأصبح “اليمين الإسرائيلي هو العدو، وليس الصهيونيّة كأيديولوجيا استعماريّة وعنصريّة. ويشمل ذلك رهاناً على ما يسمى “اليسار الإسرائيلي” (حزب العمل وتفرعاته)، رغم أن هؤلاء، ، هم ذاتهم من نفّذوا جرائم 1948 و1967 بيديهم. لقد تغيّر كلّ شيء، بما في ذلك قوانين اللعبة
اتفاقيّة أوسلو ليست، بأي شكلٍ من الأشكال اتفاقيّة إداريّة، بل مدخل إلى منظومة فكريّة شاملة ضربت قلب الشعب الفلسطينيّ وأعادت تشكيل عقلانيّته.وتحولت السلطة الفلسطينية إلى وكالة قمعية لها مؤسساته الأمنيةالتي تنسق ومع الاحتلال وتأتمربأمره . هذا إلى جانب بناء واسع بأموال غير محدودة للمؤسسات “المدنيّة” التي أعادت إنتاج أيديولوجيا أوسلو من خلال التزاماتها بأجندات الممولين، شاغلة دور “الوكالة الأيديولوجيّة للدولة”، وأخضعت الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة لعقليّة اقتصاديّة ليبراليّة ليكتسحها القطاع الخاص من مقاولين وشركات ومصارف انطلاقاً من مبدأ “تأسيس الدولة”، وهو ما سحق مبادئ أساسيّة لمجتمع مناضل كالتكافل الاجتماعيّ، وخلق بهذا نخبةً فلسطينيّة جديدة تمتلك القرار السياسيّ والثقافة السياسيّة انطلاقاً من مكانتها الطبقيّة التي تُمكنها من امتهان السياسة التي باتت تعتمد قبل كلّ شيء على الدبلوماسية تجاه الغرب والارتهان لسياسته . وقد خلق هذا، في ظل استمرار الجرائم الصهيونيّة يومياً، انشقاقاً عنيفاً داخل المجتمع الفلسطينيّ اتّخذ أشكالاً فصائليّة، مع خمود الانتفاضة الثانية. هذا كلّه، علاوة على نفي اللاجئين عن الوجود السياسي مع هجر منظمة التحرير لقاعدتها الشعبيّة في الشتات وإنهاء وظيفة اللجوء السياسيّة. علاوة على التسليم النهائيّ بمصير المواطَنة الإسرائيليّة للفلسطينيين داخل الأراضي المحتلّة عام 1948 .

اليوم وبعد ثلاثة وعشرون عاما على كارثة أوسلو ما زال الجرح الفلسطيني نازفا وما زال مصير القضية يتجه نحو نهاية مأساوية . وهذا تحديداً ما فعلته منظمة التحرير الفلسطينيّة قبل 23 عاماً في أوسلو. ولأن الهزيمة أيديولوجيّة وليست عسكريّة أو سياسيّة أو ماديّة، فالانبعاث من رمادها أكثر صعوبةً. وهي التي وضعت البنية التحتيّة للحالة التي وصلت إليها فلسطين اليوم، وهي حالة مرعبة لا تنفصل عن المشهد المروّع الذي يعيشه الوطن العربيّ برمّته.ورغم قتامة المشهد إلا أن نهج أوسلو فكرا ووعيا وأيدلوجيا يعاني افلاسة وموته المحقق ما دام هناك شعب يقاتل من اجل قضيته وما زال يقاتل على امتداد قرن من الزمان دون أن ييأس أو يفقد الأمل بحتمية انتصاره مهما طال الزمن ومهما استخدم العدو من أساليب القمع والقتل والقهر لدفع الشعب الفلسطيني إلى اليأس لميرفع يوما الراية البيضاء ولن يرفعها اليوم او غدا . تلك هي إرادة شعب يستحق الحياةوإذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى