مقالات وآراء

أنفاسها.. الحامضية!

د. حسن حميد – طريق القدس

من يصدق،

أن المرء لا يتعلم من سلوكه، أو قل من أغلاطه التي تصل في قباحاتها أحياناً إلى حد الأخطاء الأخلاقية. بالطبع لا أحد لأن طبيعة الإنسان مفطورة على التعليم، وتعزيز النجاح، ومحو العثرات، هذه فطرة، ولذلك يسعى الناس على اختلاف مستوياتهم التعليمية والاجتماعية، وعلى اختلاف بقاعهم الجغرافية إلى أن يتعايشوا مع سؤال أبدي يرافقهم منذ بدايات الوعي والإدراك إلى آخر يوم من حياتهم، وفي صور وصيغ مختلفة، فحواه: كيف رأيت عملي، ما رأيك بما قمت به، هل نجحت، أين كانت عثراتي، كيف ترى صحتي يا طبيب، ما هو تقديرك لي أيها المعلم، كيف هو رضاك عني.. وهكذا! وذلك لأن الحس الآدمي السليم يتوق إلى فعل الإيجابيات وإبعاد السلبيات، لما في الأولى من فرح، ولما في الثانية من حزن! ولهذا يتبدع الإنسان ويشتق الدروب الموصلة إلى الفرح لأن جوهر الحياة يسعى إلى الفرح ويدعو إليه، ويسد الدروب الذاهبات إلى الحزن أياً كانت مساحاته أو أذياته.

أقول هذا، وأنا أرى ما يحدث كل عام من شغف محموم لدى المشرفين على جائزة نوبل من أجل ارتكاب المزيد من الأغلاط التي تصل فعلاً إلى حد الأخطاء الأخلاقية، وذلك لأنهم باتوا يمنحون هذه الجائزة، وهي أهم جائزة عالمية، وعمرها أكثر من قرن من الزمان، تقديراً لأفعال باهتة، وغامضة، وسياسة، وفيها دعوة صريحة لتبني التفاهة والخفة من جهة، والظلم والكذب والتلفيق من جهة ثانية!

ولأننا في فضاءات هذه الجائزة (نحن في تشرين الأول الموعد المضروب سنوياً لمنح هذه الجائزة) فإنني سأبدأ من خبرها لهذا العام الذي منحها لمغنٍ أمريكي اسمه بوب ديلان، يغني أغنيات الراب، ويكتبها، وليس له من كتاب مطبوع سوى ديوان شعر واحد لا يعدّه النقاد مهمّاً، كما لا يعدون ما احتواه شعراً، ومع ذلك منحت جائزة نوبل للآداب لعام 2016 له، وفي هذا تجاهل كبير لكل أدباء العالم المرموقين في جميع القارات، فقد تخطت الجائزة بهذا الخبر، وبهذا الصنيع المزيف المنحاز، جميع أدباء العالم في أمريكا اللاتينية، وأوربا، وآسيا، وأفريقيا، ومنحت التقدير في هذا العام للسيد بوب ديلان لأنه كتب أغانيه بنفسه، ولأنه يحوز شهرة عالمية في الغناء! هذا ما جاء في حيثيات الفوز بالجائزة، أي التقريظ الذي شفع للمغني وسوغ له لكي يفوز، طبعاً كان من الممكن أن يقدر هذا المغني على غنائه وعشقه للفن من جهة فنية أو ثقافية غير جهة نوبل، بل أن يحوز على نوبل نفسها في الغناء، ولكن لا أن يحوز عليها في الآداب.. ذلك لأن هذه الجائزة، ولاسيما في حقل الآداب، تشدُّ البصر إليها سنوياً لكي يعرف أهل لإبداع من رسّمته، وقدرته، وعلى ماذا؟! وما هو الجنس الأدبي الذي حبذته لهذا العام، وإلام تعود الأسباب! غير أن الجائزة في هذا العام 2016، وعبر القائمين عليها، خيبت الآمال، فأعطتها لمن لا يستحق التكريم في حقل الآداب، وليست هذه الخيبة سوى واحدة من خيبات كثر اقترفتها الجائزة وبالعزم الكامل، والإرادة الواثقة.. خلال السنوات الفارطة، وهي تناهز القرن في عديدها لأنها بدأت في الظهور منذ عام 1901. لقد خيبّت الجائزة الآمال مرات ومرات، وفي حقول معرفية كثيرة، ففي الآداب، مثلاً، أعطت الجائزة تقديرها لأدباء انشقوا عن بلدانهم، ونددوا بسياساتها، وتحدثوا بلهجة المخبرين عن ما لا يليق به الحديث أديباً، ونشروا الغسيل الموحل على حبالهم وحبال غيرهم من دون وجه حق، أو أنهم بالغوا في الانتقاد، والجهر بالفضائح، ولا غاية لهم سوى الترذيل والتشويه واللعن. حدث ذلك تجاه أدباء روس حملوا حملتهم على النظام الاشتراكي، والصيغة الاتحادية التي عرفها زمن (الاتحاد السوفيتي)، فشنعّوا، ولاموا، وشتموا، وصوّروا المظالم التي كانت، وهي في معظمها افتراضية، وذات طابع يفوق عوالم السوريالية، ومن هؤلاء باسترناك، وبونين، وسولجنستين، ومع أنهم أدباء من رتبة إبداعية عالية إلا أن التقدير لهم لم يكن تقديراً لتجاربهم وإبداعهم، وإنما كان لما قالوه، وأشاروا إليه، ولما أسموه  بـ (الفضائح) في الحياة السوفيتييه، ولم يخل ذلك  التقدير من أبعاد سياسية مناوئة للصيغة الاشتراكية، بل لم تتخف القصدية المباشرة وراء أي قناع في منح هذه الجائزة لأولئك الأدباء بسبب نفسهم السياسي، فرواية الدكتور جيفاكو لـ باسترناك، رواية مهمة جداً، ومشغولة بروح إبداعية تعبر عن أهمية روح الإبداع التي يتحلّى بها باسترناك، وهي عالية وفذة من دون ريب أو شك، مُنحت جائزة  نوبل في سنة صدورها، وفور طباعتها في أوربا، بعد أن هُرّبت إلى إيطاليا، منحت الرواية جائزة نوبل لأنها جهرت بانتقادات لاذعة وقاسية لصيغة عيش الناس في المجتمع السوفييتي، ولا سيما التضييق على الحريات، والرقابة، والخوف الذي زُرع في النفوس، الخوف من كل شيء، والتسليم الأعمى بكل ما تقوله الصيغة الاشتراكية.. حسب ما جاءت به الرواية!

صحيح أن باسترناك أجبر على رفض الجائزة، لكن الصحيح الذي لا يمحى، وهو عيب، يتمثل في أن القائمين على جائزة نوبل منحوها له لأنه كان صاحب جرأة على الانتقاد واللعن والتشهير، وقد أرادوا أن يفتحوا، من خلال باسترناك من جهة والتقدير الذي حظي به حين منح الجائزة من جهة أخرى، دروباً أوسع وأشمل وأكثر من أجل تدمير صيغة العيش السوفيتيية!

غلطة أخلاقية أخرى اقترفتها جائزة نوبل، حين منحت تقديرها للكاتب الصهيوني يوسف بن عجنون الذي لم يكن جديراً بأن يفوز بجائزة على مستوى قرية أو حي، لأن كتاباته ملأى بالعدوانية والعنصرية والكذب على العالم، والتاريخ، وتجاهل الجغرافية، والمعطيات الواقعية حين قال: إن فلسطين أرض اليهود ووطنهم القومي، وإن الفلسطينيين محتلون، وجهة غاصبة للحقوق اليهودية؛ هذا الكاتب منح الجائزة مناصفة مع كاتبة يهودية أخرى، أما كتاباته، وهذا هو المهمّ، فهي أشبه بالبيانات السياسية المحتشدة بالكراهية والدموية وشتم الآخرين، وليس الآخرون هنا سوى الفلسطينيين والعرب!

غلطة أخلاقية أخرى اقترفتها الجائزة حين منحت تقديرها لكتّاب صينيين ليسوا معروفين في بلدهم الصين، ولا في العالم، (هم معروفون لدى الدوائر السياسية، وفي بقاع جغرافية محددة) وذلك لأنهم فعلوا الفعل عينه الذي قام به بعض الكتّاب الروس الذين هاجموا الفكر الاشتراكي، كتاب صينيون من درجات إبداعية متأخرة، استحوذوا على تقدير نوبل لأنهم تحدثوا عن الثورة الثقافية في الصين، وعن الظلم والموت الجماعيين، وعن أسرار المجتمع الصيني الذي هو في نهاية المطاف، كما صوروه في رواياتهم، مجتمع فاقد للحرية، هكذا زعموا! واليوم الصين هي من هي في النظام والتطور والضبط، وهي من هي على المستوى العالمي!

غلطة أخرى، أخلاقية بالطبع، اقترفتها جائزة نوبل حين منحت تقديرها لكاتب من ترينيداد اسمه ا.س نايبول، هو نفسه لا يعدّ كتاباته ذات قيمة أدبية أو إبداعية، لأنها كتابات جاءت على شكل انطباعات عن رحلات قام بها إلى بعض بلدان آسيا، لكن ما جاء في هذه الكتابات لفت انتباه القائمين على جائزة نوبل، وهو المتمثل في الحديث الكاره للإسلام والمسلمين، والحط من شأنهم، واتهامهم بما يجعلهم يوازون في الرتبة والمقام الحيوانات ليس إلا! إنها كتابات عمياء، وحاقدة، وعنصرية، وطافحة بالمبالغة والدسائس، ومع ذلك فازت بجائزة نوبل!

وقبل وقت قليل منحت كاتبة تقدير جائزة نوبل لأنها تحدثت في كتاب تسجيلي أيضاً، وهي صحفية وليست كاتبة، عن ما حدث من تسريبات شعاعية من مفاعل تشيرنوبل النووي من أجل المزيد من دك الفكر الاشتراكي، والقول وصفاً إنه غير مهتم بالناس، والبشرية في آن! لقد قالت الجائزة إن كتابها (صلاة لـ تشيرنوبل) رواية، والكاتبة البيلاروسية نفسها واسمها (سفيتلانا إليكسييفيتش) لا تقول عن كتابها إنه رواية! فالسياسة، والقصدية، والأنفاس الحامضية، تورّث العماء، وهذا ما أصاب توجهات جائزة نوبل مرات ومرات! وهذا ما حدث في هذا العام، حين تمنح الجائزة لمغني الراب (بوب ديلان) وباسم الأدب. ما أرد قوله تعليقاً، إنما الغرب الذي بات يشبه جرافة هائلة، غدا بلا مشاعر، بلا أحاسيس، وهذا أمر يخرجه من عالم الإنسانية، ومن عالم القيم، ويدخله في عالم آخر هو عالم الحديد، والاستعلاء، وبهذا الدخول.. راح يظن بأن كل ما يقوله، وما يفعله، وما يوحي به، وما يشير إليه هو حقائق جمالية لا يطالها القبح أبداً، وهذا مجرد وهم، وهم قاتل.. ينز الحقد منه ويسيل!

وعلى الرغم من كل هذه الأغلاط التي تصل إلى منزلة الأخطاء، فإن بعض المترجمين العرب تراكضوا لاهثين لترجمة مثل هذه الأعمال، ودبجوا الأحاديث التقريظية لها في الصحف والمجلات، مثلما دبجوا الأماديح لها على مواقع التواصل الاجتماعي، وذلك بوصفها أحداثاً ثقافية، ومن هؤلاء الكتبة والقراء من لم يعرف شيئاً عن محتوياتها اللهم سوى ما قالته تقارير الجائزة!

والحق أن الفوز بجائزة نوبل حدث ثقافي ومهم، لكن هذه العيوب القاتلة شوّهته، وجعلته حدثاً قاتلاً للجمال والإبداع والعدالة لأن التزوير والتلفيق والزيف لف قرارات هذه الجائزة، وليس في حقل الآداب فحسب، وإنما في غالبية الحقول المعرفية التي تقدرها الجائزة بالثناء، ومنها حقل العلوم التي تتم الإبداعات فيها من أجل المزيد من الشرور والخراب في العالم، ولاسيما تطوير القنابل، والصواريخ، وسرعة الطائرات القاذفة، ومنها حقل السياسة أيضاً حيث مُنحت الجائزة للقتلة، ومصاصي الدماء، ومقترفي المجازر!! فهل كانت هذه الأغلاط مجرد أغلاط فحسب، أما أنها تخطت هذا المعنى لتصير أخطاء أخلاقية ضد الشعوب، والمعتقدات، والتاريخ، والمستقبل البشري!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى