الأخبارثقافة

“أنا الولد الفلسطيني”

قبل أيامٍ قليلة من رحيله، حظي الشاعر الفلسطيني الكبير أحمد دحبور على مراده الأخير الذي انتظره مطولًا، فأمسك بين يديه للمرة الأولى مجلد أعماله الشعرية الكاملة، والتي تم تجميعها مؤخرًا كنوعٍ من التكريم له، وإن كان لا يرقى لمكانة هذا الرجل.

قبل رحيله بأيام، حيث كان يرقد في المستشفى الاستشاري العربي بمدينة رام الله، نفذ وفدٌ ثقافي وأدبي زيارة للشاعر حاملًا معه مجلد الأعمال الكاملة.

تتزيّن مقدمة الأعمال بكتابةٍ خُطت بالحبر الأحمر، كنايةً عن الحبر الساخن الذي كتب به دحبور لشهداء قضيته الفلسطينية.

وجاءت هذه الطبعة من أعمال دحبور الكاملة بعد عشرة أعوام من السعي لإنجازها، حيث وصل عام 2007 وفدٌ من اتحاد الكتاب إلى العاصمة السورية دمشق، والذي زار دحبور حينها، أبلغه بالسعي لطباعة أعماله الكاملة، ومنذ ذلك الحين كانت قد بدأت رحلة العمل والبحث عن هذه الأعمال، لتكون جاهزة.

التقينا الأمين العام للاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين مراد السوداني، والذي كان أحد أعضاء الوفد الذي زار دحبور في دمشق حينها، وبيّن أنّ الطبعة لم تُنجز طوال هذه المدة، بسبب عدم وجود اهتمام، وعدم توفر المموّل الذي تُطبع الأعمال على نفقته.

وكان الوفد قد بدأ البحث عن أعمال دحبور، والتي لم يجد منها إلّا مجموعة بسيطة من الأعمال التي طُبعت عن “دار العودة” عام 1982م، والتي كانت في حالةٍ سيئة، نظرًا لاستخدامها من قبل طلبة الجامعات.

وقال السوداني في حديثه مع “الهدف”: بدأنا بتحضير هذه الأعمال لمحاولة إصدار الأعمال الكاملة حتى وصلنا إلى 12 مجموعة شعرية، وقمنا بتجهيزها ومراجعتها.

وبيّن أنّ إنجاز الأعمال في هذه الفترة، كان ضروريًا، نظرًا لأنّ الشاعر دحبور كان قد عاد للوطن، وأصبح من الضروري حضور أعماله أسوةً بباقي الشعراء الفلسطينيين الكبار.

وعن رحلة تجهيز الأعمال وطباعتها، قال السوداني “تواصلنا مع إحدى دور النشر، التي طلبنا منها طباعة الأعمال بعد تجهيزها، إلا أنها اعتذرت نظرًا لعدم وجود التمويل”، ويضيف “توجهت للرئيس عباس وطلبت منه دعم طباعة ديوان دحبور، فوافق على ذلك، نظرًا لعدم وجود موازنة خاصة لاتحاد الكتاب مخصصة لطباعة أعمال الشعراء”.

وأضاف “سارع الصندوق القومي الفلسطيني بأقل من أسبوع تحويل مبلغ ستة آلاف دولار، إلى المطبعة ودار النشر، لإصدار أعمال دحبور، والتي صدرت لأوّل مرة في الأرض المحتلة في مجموعةٍ شعرية واقعة بمجلدين”.

هذان المجلدان، قُدما للشاعر دحبور أثناء مكوثه في العناية المشددة برام الله، وكان مشهدًا ذو طابع خاصّ ومؤثر، رغم وجوده تحت أجهزة التنفس وصعوبة حديثه، إلا أنّ تعبيراته أوحت بالفرح الشديد الذي شعر به، وقدم كلمات الشكر للوفد الذي زاره من الاتحاد مقدمًا هذه الأعمال، وقبل مغادرة الوفد، كان قد وضع المجلدين أمام دحبور في غرفته بالمستشفى، وقد ظلّا كذلك بعد المغادرة.

يصف السوداني لحظات دحبور في المستشفى أثناء تقديم الأعمال الكاملة له، ويصف فرحه وشعوره وكلمات شكره، التي وجهها لهم، وفي اللحظة ذاتها بدأ بتذكّر أول أوقاته في الشعر، حيث صدر ديوانه الأول عام 1982، قائلًا إنه كان شابًا يرى أعماله لأول مرة، في طريقٍ محفوف بالمخاطر والخوف، والآن وبعد انتظارٍ آخر، يرى أعماله الكاملة فرحًا بها، قبل رحيله.

ويرى رئيس اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، أنّ الشاعر دحبور لم يحظَ بالاهتمام الكبير الذي حظي به غيره من شعراء فلسطين، فقد ظُلم كثيرًا، وتُرك سواء من شعبه ومؤسساته الرسميّة وحكوماته، حتى أنّ المرض تذكره قبل أن يتذكّره غيره.

والشاعر دحبور الذي لطالما استمعنا لكلماته، دون أن نعلم أنها له، حين غنتها فرقة العاشقين، بدءًا من “اشهد يا عالم”، و”صبرا وشاتيلا”، و”والله لازرعلك بالدار”، حتى عمله الكبير الذي تعلّمناه منذ الصغر في مدارسنا، من كتب اللغة العربية، وهو “حكاية الولد الفلسطيني”.

يُشير السوداني إلى أنّ الشاعر دحبور واحد من الأسماء العالية في المسيرة الشعرية الفلسطينية والعربية أيضًا، قائلًا “كان لا بد من أن تكون أعماله من الأجيال الجديدة معروفة، وكان يجب أن تعرف سيرته كواحد من قناطر شعر المقاومة، وأهم الشعراء الذين سمعناهم كلما على صوت الاشتباك في فلسطين”.

ويُضيف “كثيرون لا يعرفون أنّ القصائد القديمة والجديدة التي غنتها فرقة العاشقين هي لدحبور، ومن الواجب علينا أن نعيد الاعتبار لإرثه الجمالي، بكامل حمولته المعرفية والشعرية أمام قرّاءه، من خلال مجلدات الأعمال الكاملة لدحبور”.

وعن إصدار الأعمال الكاملة وبدء نشرها للعامة، بيّن السوداني خلال حديثه مع “الهدف”، أنّها ستنتظر بعض الأيام لاستكمال طباعتها ونشرها. قائلًا عنها “إنها من أفضل فضائلنا التي يجب أن نتباهى بها، وفاءً لهذا الشاعر”.

وكان الشاعر دحبور توفي يوم السبت الماضي 9 نيسان/ابريل 2017، بعد صراعٍ مع المرض في مدينة رام الله، بعد 71 عامًا عاشها بين فلسطين والشتات.

وأحمد دحبور الذي وُلِد مدينة حيفا عام 1946، نشأ ودرس في مخيم حمص للاجئين الفلسطينيين في سوريا، بعد أن هاجرت عائلته إلى لبنان اثر نكبة عام 1948، ومنها إلى سوريا.
وعمل مديرا لتحرير مجلة “لوتس” حتى عام 1988 ومديراً عاماً لدائرة الثقافة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وعضو اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، ووكيلا لوزارة الثقافة حتى تقاعده عام 2007.

وبرحيل دحبور، خسرت الساحة الثقافية الفلسطينية خسارة فادحة، إضافةً لساحة الثقافة العربية جمعاء، فبرحيله، خسرت هذه الثقافة واحداً من أهمِّ أعلامها الشعراء، وعلاماتها الشعرية الفارقة التي ارتبطت بشكل عضوي بقضية شعبنا الفلسطيني، كهمّ يومي لها، وهاجس دائم، فضلاً عن ارتباطها بقضايا أمتنا العربية، وقضايا التحرر في العالم أجمع.

وفي بيانٍ حول رحيل دحبور، قالت وزارة الثقافة الفلسطينية “من الصعب بمكان سد الفراغ الذي سيتركه صاحب “حكاية الولد الفلسطيني”، وكاتب كلمات الأغنيات الخالدات، ومنها: “اشهد يا عالم”، و”عوفر والمسكوبية”، و”يا شعبي يا عود الند”، و”الله لأزرعك بالدار”، و”يا بنت قولي لامك”، و”غزة والضفة”، و”صبرا وشاتيلا”، وغيرها الكثير من الأغنيات التي كان الوطن جوهرها، وسكنها النضال من أجل الحرية مع كل حرف من كلماتها وعباراتها، ففلسطين في أغنيات دحبور أهم من الحزب والانتماءات الضيقة، وهي التي سكنها في سنين عمره الأخيرة، فكان “العائد إلى حيفا” ولو لساعات بين فترة وأخرى.

وأكدت الوزارة في بيانها على أنّها كانت وستبقى الحريصة على تعميم إرث دحبور الشعري والنثري، مختتمة بيانها بالتأكيد “لو رحل دحبور جسداً تبقى كلماته حية في وجدان الشعب الفلسطيني بأجياله المتعاقبة”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى